الجزائر المستقلة : نصف قرن من الصراع على السلطة (ج2)

بعدما تعرضنا في الجزء الأول لمسلسل الصراع على السلطة في الجزائر منذ الأيام الأولى للإستقلال إلى انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1989، نعرج في هذا الجزء الأخير على فترة “العشرية السوداء” ومجيء الرئيس بوتفليقة لسدة الحكم.

algerie-FIS_madani
زعيما الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني (يمين) وعلي بلحاج (شمال)

فرضت المظاهرات الشعبية على نظام الشاذلي القيام بإصلاحات سياسية أنهت عهد الحزب الواحد وسمحت للناشطين للمرة الأولى في تاريخ البلاد بإنشاء أحزاب سياسية تعكس التنوع الإيديولوجي للشارع الجزائري. وكرس دستور 1989 التعددية السياسية الموعودة وشرعت حكومة مولود حمروش في إصلاحات عميقة سمحت بتحرير قطاع الإعلام وفتحت المجال أمام الأحزاب السياسية الجديدة للتعبير عن برامجها وتطلعاتها. وبرز الإسلاميون بقيادة حزب “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” كأكبر قوة سياسية معارضة للحزب الذي حكم البلاد منذ الإستقلال (جبهة التحرير) مستفيدين من المعارضة الشعبية العميقة للحزب العتيد وتطلعات المواطنين لبديل ديمقراطي حقيقي لنظام الحزب الواحد. وسخر التيار الإسلامي بقيادة علي بلحاج وعباسي مدني أماكن العبادة لحشد الجماهير وتأليبها ضد النظام الحاكم. وكما كان متوقع فقد فازت “الجبهة الإسلامية” في الإنتخابات البلدية وأضحى من المتوقع فوزها في الإنتخابات التشريعية والرئاسية. وأراد الشاذلي الإستمرار في المسار الديمقراطي رغم الإضطرابات والمشادات التي يشهدها الشارع بسبب تخوف الإسلاميين من تراجع السلطة عن وعودها باستكمال المسار الإنتخابي. وزاد من حالة الإحتقان التي شهدتها البلاد اعتقال السلطات للزعيمين علي بلحاج وعباسي مدني في صائفة 1991 واستقالة حكومة مولود حمروش الإصلاحية.

وعبرت قيادة الجيش عن موقفها من الإسلاميين في إفتتاحية لمجلة الجيش أعلنت فيها بوضوح أن “قوات الجيش الوطني الشعبي لن تسلم مقاليد الحكم لمتطرفين يريدون إرجاع البلاد للعصور الوسطى”. وقللت دوائر السلطة من احتمال فوز الإسلاميين بالأغلبية في الإنتخابات التشريعية المقررة في ديسمبر/كانون الأول 1991 بإلإعتماد على “نظام التمثيل النسبي” الذي سيمنح الإسلاميين – حسب تقديراتها– 30 بالمائة من الأصوات على أكبر تقدير. وعلى غير المتوقع، فاز الإسلاميون في الدور الأول من الإنتخابات ب48 بالمائة من الأصوات مما أدى بالمراقبين للتكهن بفوزهم بالأغلبية المطلقة في الدور الثاني. وفي هذا الوقت خرج سعيد سعدي، الزعيم العلماني لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، في مسيرات مع أنصاره مطالبا قوات الجيش بالتدخل لإيقاف المسار الإنتخابي وتفويت الفرصة على الإسلاميين. أما حسين آيت أحمد، زعيم حزب القوى الإشتراكية، ولويزة حنون، رئيسة حزب العمال، فقد عبروا عن رغبتهم في استكمال المسار الإنتخابي مبررين تقدم الإسلاميين بعزوف جماهير عريضة عن الإنتخاب بسبب الإعتقالات والجو المشحون الذي تعيشه البلاد. وفي يناير/جانفي 1992 استقال (أو أُقيل) الرئيس الشاذلي من منصبه فاسحا المجال للسلطات بإيقاف الإنتخابات التشريعية (التي كاد الإسلاميون أن يحسموها لصالحهم) والتوجه بسرعة نحو انتخابات رئاسية.

boudiaf
الرئيس الراحل محمد بوضياف

وبعد إيقاف المسار الإنتخابي تم استدعاء محمد بوضياف، المناضل القديم الذي رفض الإنضمام لنظامي بن بلة و بومدين و الذي عاش في المنفى، لتوليته رئاسة البلاد. ولا يخفى على أحد مواقف بوضياف المعارضة للحكم الشمولي واستقلاليته التامة عن الأطراف المتصارعة على الحكم في الجزائر. لكن ذلك لم يمنعه من قبول تولي القيادة بسبب إدراكه للخطر الذي يداهم البلاد التي تمر بأوقات العصيبة بعد تعطيل المسار الإنتخابي. وفي خطوة منه لمعالجة الأسباب التي رمت بالجزائريين إلى أحضان الإسلاميين، قرر بوضياف معالجة المشكل الحقيقي الذي يعانيه البلد : الفساد. وفي الوقت نفسه بدأت الهجمات الإرهابية في استهداف قوات الأمن والمثقفين وبرز نجم الجيش الإسلامي للإنقاذ، الجناح المسلح للجبهة الإسلامية التي تم حظرها، الذي يستمد “مشروعه الجهادي” من الخطابات النارية التى ألقاها علي بلحاج قبل أعتقاله والتي برر فيها رفع السلاح ضد الدولة. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

وفي هذه الظروف الإستثنائية أعتقلت السلطة الحاكمة عشرات الآلاف من المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية المحظورة وتعرض الكثير منهم للإختفاء القسري. و بدأ بوضياف في كسب التأييد الشعبي عن طريق “سياسة الأيادي النظيفة” التي أعتمدها كركيزة أساسية لإقامة دولة القانون والقضاء على الرشوة والإرهاب. لكن ذلك لم يرق بدون شك للطبقة الأوليغارشية المتحكمة في اقتصاد البلاد. في شهر جوان/حزيران 1992 توجه بوضياف لمدينة عنابة (شرق البلاد) لإلقاء خطاب جماهيري تعرض خلاله لعملية اغتيال شاهدها الجزائريون مباشرة على شاشات التلفزيون. وشكلت هذه الحلقة الدرامية في الصراع على السلطة في الجزائر ضربة قاضية لأحلام ملايين الجزائريين في إقامة دولة الحرية والعدالة التي أرادها ثوار ثورة نوفمبر الأوائل وعلى رأسهم محمد بوضياف. ووُجهت أصابع الإتهام لأحد المتعاطفين مع الإسلاميين من الحرس الرئاسي الذي أعترف بجريمته لكن العديد من المراقبين يعتقدون بأن أطرافا في النظام من الطبقة الأوليغارشية كانت غير راضية على سياسة الأيادي النظيفة التي انتهجها الرئيس دورا في أغتياله. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

وعُين علي كافي على رأس ما سمي “بالمجلس الأعلى للدولة” بالتزامن مع توجه البلاد نحو حرب أهلية فظيعة خلفت مئات الآلاف من الضحايا والمفقودين.

زروال
الرئيس الأسبق اليمين زروال

وتم استدعاء الجنرال اليمين زروال في شهر جانفي/يناير 1994 عى رأس المجلس الأعلى للدولة كحل وسط بين طرفي النظام الذين لا يمانعون من التفاوض مع الإسلاميين لدرأ الفتنة والإقصائيين الرافضين لأي تواصل مع أولئك الذين رفعوا السلاح ضد الدولة والذين يفضلون الطريقة الأمنية لسحق الإرهاب. وفور تعيينه سعى زروال للتقرب من الإسلاميين وقام بإطلاق سراح علي بلحاج وعباسي مدني زعيما الجبهة الإسلامية المحظورة. لكن حمام الدم لم يتوقف وأضحى على قائمة العناوين الصحفية في العالم خصوصا بعد المجازر المروعة المنسوبة للجماعة الإسلامية المسلحة الأكثر تشددا والتي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين العزل في المناطق النائية. ولجأت السلطات لتسليح القرويين وتكوين مليشيات موالية للدولة ساهمت  في توجيه ضربات قاصمة للجماعات الإسلامية المسلحة لكنها – على غرار كل حرب أهلية – لم تكن بمنأى عن تجاوزات وعمليات ثأر راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.

في هذه الظروف فاز اليمين زروال في الإنتخابات الرئاسية لعام 1995 فاسحا المجال لبعض الإسلاميين المعتدلين للحصول على بعض الحقائب الوزارية في الحكومة. ورغم عمليات التواصل المتقطعة مع الفصائل الإسلامية المسلحة في عهد زروال فإن مسلسل العنف بقي يراوح مكانه رغم إحراز القوات الحكومية تقدم مهم في الجبهات مدعومة بمليشيات الدفاع الوطني والرفض الشعبي المتنامي للفظائع التي ارتكبتها الجماعة الإسلامية المسلحة في حق المواطنين العزل و التفجيرات التي استهدفت الأماكن العمومية. وفي سبتمبر/إيلول 1998 فاجأ الرئيس زروال الجميع بإعلان تنحيه عن الحكم وإجراء انتخابات رئاسية مسبقة. وقد فسر العديد من المراقبين هذه الخطوة بالضغوط التي تعرض لها من أطراف في الجيش أرغمته على التنحي. وهذا فصل آخر من فصول الصراع السلطة في جزائر الإستقلال.

butaflika
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة

وتقدمت للإنتخابات الرئاسية لعام 1999 العديد من الشخصيات المرموقة مثل مولود حمروش وحسين آيت أحمد وأحمد طالب الإبراهيمي بالإضافة إلى عبد العزيز بوتفليقة الذي أختفى عن المشهد السياسي منذ رحيل بومدين وقضى سنوات “العشرية السوداء” في الخارج. وسارع الملاحظون إلى التأكيد على أن بوتفليقة هو مرشح النظام وأنه لا جدوى من الترشح للرئاسيات بدون ضمانات لتجنب التزوير مما دفع بانسحاب المرشحين المنافسين الذي رأوا في الإنتخابات مجرد تمثيلية باعتبار أن بوتفيلقة قد تم اختياره بالفعل للمنصب. لكن ذلك لم يمنع بوتفليقة – المرشح الوحيد – من الفوز بالإنتخابات. واختصر هذا الأخير مشروعه الإنتخابي في ثلاث نقاط أساسية : إنعاش الإقتصاد وإيقاف مسلسل العنف واسترجاعه المكانة الدولية للبلاد التي تضررت بسبب عقد كامل من الحرب الأهلية. وحصل مشروع “الوئام المدني” على الأغلبية الساحقة في استفتاء عقد عام 1999 والذي تم بموجبه العفو عن الإسلاميين المسلحين مقابل تركهم للعمل المسلح وتم دفع تعويضات مالية لضحايا ما سمي “بالعشرية السوداء”. ومكن القانون ألاف من مسلحي الجيش الإسلامي للإنقاذ، الجناح المسلح للجبهة الإسلامية المحظورة، من إلقاء السلاح والعودة لذويهم. ورغم تراجع حدة العنف فإن جماعات محدودة تابعة لما يسمى “قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي” لازالت ترفض التراجع عن العمل المسلح.

ورغم تراجع العنف في بداية الألفية الجديدة، فإن العلاقة بين الشعب والسلطات الحاكمة بقيت متوترة ومن الصعب ترميمها. فقد شهدت منطقة القبائل مشادات عنيفة عام 2001 بين المواطنين المحتجين والشرطة بعد وفاة شاب على أيدي قوات الدرك. وقد تسببت المشادات في وفاة وجرح المئات من المواطنين. وقد دفعت الأحداث الرئيس بوتفليقة إلى إدراج اللغة الأمازيغية كلغة وطنية في الدستور في محاولة منه لتهدئة الشارع الأمازيغي. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

وتسبب إرتفاع أسعار النفط في السوق الدولية منذ مجئ عبد العزيز بوتفليقة لسدة الحكم في زيادة مداخيل الدولة مما مكن من الشروع في إنجاز مشاريع طموحة في البنية التحتية وزيادة الدعم للمواد الأساسية والأجور لتحسين مستوى المعيشة. لكن الفساد الذي انتشر في جميع أجهزة الدولة أفشل الكثير من المشاريع التنموية في البلاد وكشف عن هدر للمال العام لم يسبق له مثيل منذ الإستقلال. وتمكن الرئيس بوتفليقة من إبعاد منافسيه في دوائر القرار الواحد تلو الآخر وبسط سيطرة “مجموعة وجدة” على الحكم التي حكمت البلاد بيد من حديد في عهد أحمد بن بلة وهواري بومدين. وفاز بوتفليقة بأربع عهدات متتالية رغم كبر سنه وعجزه في السنوات الأخيرة بعد إصابته بجلطة دماغية أفقدته القدرة على الحركة. وهذا فصل آخر من فصول الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

ورغم الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد عام 2011 في غمرة الربيع العربي وانهيار العديد من الأنظمة الأوتوقراطية في العالم العربي تحت ضغط الشارع، فإن نظام بوتفليقة رفض بثقة تامة التراجع عن سياساته مستغلا تخوف الشعب الجزائري من عودة كابوس الإرهاب الذي لا يزال عالقا في الأذهان. وفي الوقت الذي تراجعت فيه أسعار المحروقات إلى النصف بسبب إغراق السوق العالمية بالذهب الأسود وتزايد إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة فإن الميزانية الجزائرية بدأت تسجل أول عجز لها منذ سنوات. ولجأت السلطة للمزيد من احتياطات النقد الأجنبي لدعم الميزانية وزيادة المساعدات الاجتماعية لتهدئة الشارع. لكن العديد من المراقبين يعتقون أن هذه الحلول الترقيعية لن تصمد طويلا إذا استمرت أسعار النفط في الإنخفاض بسبب اعتماد البلاد كليا على النفط لاستيراد حاجياتها الأساسية وضعف النشاط الصناعي والزراعي. كل ذلك ينذر بتواصل مسلسل الصراع على السلطة الذي تعيشه البلاد منذ الإستقلال و الذي أهدر فرص ثمينة للتمنية وإقامة دولة العدالة والحريات التي نادى بها بيان ثورة نوفمبر المجيدة. والسؤال الأهم لو استمرت أسعار النفط على حالها وعجزت الدولة عن دعم المواد الأساسية : فهل سيعيد التاريخ نفسه وهل نحن بصدد الرجوع إلى نفس الظروف التي أدت لانتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988 ؟ فرجوع إيران المنتظر للسوق النفطية سيشكل ضغطا جديدا على الأسعار في السوق الدولية.

ولو عدنا للنقطة التي بدأنا منها هذا المقال، أي أحداث غرداية، لتيقنا أن الصراع وإن كان في ظاهره مذهبيا وعرقيا فإنه قبل كل شيء صراع على الأراضي والسكن والموارد الأساسية للحياة الكريمة بعدما ضاقت مدينة غرداية بقاطنيها الذين تعايشوا معا لقرون طويلة. أحداث غرداية تجسد صراع الجزائريين البسطاء فيما بينهم على الفتات الذي ألقته السلطات للشعب في شكل مساعدات للسكن والتجارة بعدما فشلت في توفير التمنية الحقيقية والحياة الكريمة لجيل الإستقلال. نتمنى أن يدرك أطراف النظام الحاكم حجم الضرر الذي لحق بالمجتمع بسب صراعهم على السلطة الذي جمد أي مشروع تقدمي تنموي يجنب الجزائريين الصراع فيما بينهم ويضمن لهم العيش الكريم. لقد ألتهم الصراع على الحكم نصف قرن من عمر الجزائر المستقلة وأهدر فرص عديدة للنهوض بالبلاد آخرها الطفرة النفطية التي شهدتها الجزائر منذ 15 عاما والتي لو تم اغتنامها واستثمارها في مشاريع إنتاجية مدروسة لتحولت الجزائر إلى مصاف الدول الناشئة على غرار الهند والصين والبرازيل… وللحديث بقية.

الجزائر نت
 

الجزائر المستقلة : نصف قرن من الصراع على السلطة (ج1)

independance-dz
مشهد عن احتفالات الجزائريين بالإستقلال عام 1962

منذ اندلاع أحداث مدينة غرداية الأخيرة التي راح ضحيتها عشرات المواطنين – والتي تم تسويقها للرأي العام المحلي والدولي كأحداث عنف ذات دوافع طائفية وعرقية – أصبح الحديث عن المصير المجهول الذي ينتظر البلاد أكثر واقعية من أي وقت مضى. الصراع في غرداية والذي يجسد ميدانيا قبول البعض “بإقتتال الجزائريين” لأجل مصالح ضيقة يبين مدى هشاشة الحس الوطني والتأخر الرهيب الذي تعيشه البلاد في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية بعد أكثر من نصف قرن من الإستقلال. كما يبين فشل وارثوا ثورة نوفمبر المجيدة في تحرير الشعب بعدما نجحوا في تحرير البلاد وفشلهم في إعداد جيل قادر على تجسيد الإستقلال الوطني الحقيقي وإرساء دولة القانون والحريات. لا نعتقد أن ثوار 1954 كانوا يريدون طرد المحتل لإقامة جزائر كجزائرنا اليوم، جزائر يتقاتل فيها الجزائريون على السلطة والثروة والمذهب والعرق والقبيلة. ثورة نوفمبر كانت في الأساس لاسترجاع شرف الجزائريين وهويتهم وحريتهم التى داس عليها الإحتلال الفرنسي منذ عام 1830 وهذا ما فشلت في تحقيقه الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال. 

دعونا نعترف أننا لحد اليوم لم ننجح في استرجاع شرفنا رغم رحيل قوات الإحتلال منذ عشرات السنين. لماذا ؟ بسب الصراع غير النزيه على السلطة وانفراد البعض بها لأجل مصالحهم الضيقة. فما وصلنا إليه اليوم ليس وليد عهد بوتفليقة فحسب، بل نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية تمتد لأكثر من نصف قرن من عمر الدولة الجزائر المستقلة. دعونا نعود للجزائر عشية استقلالها حتى نفهم أسباب الفشل الذي نعيشه اليوم الذي أرسى اليوم عوامل الكراهية والصراع بين الجزائريين بمختلف أطيافهم بعدما كانوا البارحة يدا واحدة ضد المحتل الأجنبي.

Ben_bella_and_Boumediene
الزعيمان هواري بومدين (يمين) وأحمد بن بلة (يسار)

ففي عام 1962 الذي نالت فيه الجزائر استقلالها – بعد ثورة مسلحة دامت ثماني سنوات و 132 من الإحتلال الفرنسي- طُرح مشكل “شرعية” السلطة المنبثقة عن فصائل جبهة التحرير الوطني المختلفة. لا أحد نفي أن هناك خلافات في صفوفها وهو يمتد إلى سنوات الثورة التي شهدت انقسامات في صفوف الثوار تم لحسن الحظ تجاوزها لإنجاح الثورة التحريرية وصد العدو الأجنبي المشترك. فقد رفض الكولونيل هواري بومدين، زعيم هيئة الأٍركان العامة لجيش التحرير الوطني، وآخرون اتفاقيات إيفيان بسبب ما اعتبروه تنازلات غير مقبولة من الحكومة الجزائرية المؤقتة لصالح الجانب الفرنسي.

ومنذ ذلك الحين شرع بومدين في التخطيط للإستيلاء على جبهة التحرير الوطني (والسلطة) بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ولتحقيق ذلك بعث الشاب المقرب منه عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا لإقناع محمد بوضياف الذي كان يقبع في السجن بالإنضمام لجماعة بومدين لكن دون جدوى. للإشارة فإن بوضياف تم القبض عليه من طرف قوات الإحتلال عام 1956 مع أعضاء من “المجلس الوطني للثورة الجزائرية” المنبثق عن مؤتمر الصومام – منهم محمد خيضر وحسين آيت أحمد وأحمد بن بلة – بعدما تم تحويل الطائرة المغربية التي كانوا يستقلونها في طريقهم للقاهرة إلى تونس. وقد تم إطلاق سراح زعماء جبهة التحرير المسجونين في فرنسا بعد عقد اتفاقيات وفق إطلاق النار في 19 مارس 1962. وبعد رفض بوضياف وحسين آيت أحمد الإنضمام لمعسكر “جماعة وجدة” توجه بوتفليقة لأحمد بن بلة وقد لقى ترحيبا من هذا الأخير أنتهى بقبوله التحالف مع بومدين.

وقد عكس مؤتمر طرابلس في ماي 1962 الإنقسامات العميقة في صفوف الزعماء الجزائريين الفاعلين حول مستقبل البلاد. وقد تم الاتفاق على تبني الإشتراكية كإيديولوجية رسمية للدولة الجزائرية الفتية وجعل جبهة التحرير الوطني التي قادت الكفاح المسلح كواجهة سياسية لنظام الحزب الواحد. ووصل الصراع حول الزعامة إلى أشده عندما رفض أعضاء الحكومة الجزائرية المؤقتة ترشيح أحمد بن بلة للرئاسة ودخولهم التاريخي إلى الجزائر العاصمة في الرابع من شهر جويلية/يوليو 1962 باعتبار أن الحكومة المؤقتة هي الممثل الشرعي للشعب الجزائري وهي التي تفاوضت مع الجانب الفرنسي وحصلت على اعتراف المجتمع الدولي. وبعد عودته للجزائر حصل بن بلة على دعم المناضل فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة وشرع في إقصاء الأعضاء المناوئين له (محمد بوضياف وحسين آيت أحمد على الخصوص)  وقد عمل المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني في تلمسان على “شيطنة” الإدارة السياسية للحكومة المؤقتة ورفض “شرعيتهم الثورية”. وهذه أولى حلقات الصراع على السلطة في غمرة الإحتفالات بالإستقلال. وهكذا توالت المواجهات الدامية في الجزائر العاصمة بين مختلف فصائل “الولايات التاريخية” التي خاضت القتال ضد الجيش الفرنسي والتي أضحت متنافسة فيما بينها لأجل السلطة. وفي بداية شهر أوت/أغسطس 1962 دخل بن بلة وأنصاره بالقوة للجزائر العاصمة مدعومين بقوات العقيد بومدين وقد خلفت تلك المواجهات مئات القتلى من المواطنين الجزائريين. وكما يقول الحقوقي الجزائري علي يحي عبد النور، “فالثورة لا يملكهما من أشعلوها بل أولئك الذين أنهوها وسيطروا عليها باعتبارها غنيمة”.

هواري بومدين
الرئيس السابق هواري بومدين

وبعدما تم التحكم شيئا فشيئا في الفوضى التى سادت الجزائر العاصمة غداة إعلان الاستقلال تم تعيين فرحات عباس على رأس المجلس الوطني الجزائري وإعلان قيام “الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية” و انتخاب أحمد بن بلة كأول رئيس للبلاد. وحال تسلمه منصبه بدأ الرئيس في تطبيق الإيديولوجية الإشتراكية التي نادى بها بومدين وجعل اقتصاد البلاد تحت هيمنة الدولة. لكن أسلوبه الأتوقراطي في الحكم دفع بالكثير من الشخصيات الوطنية إلى التخلي عنه والتحول لمعارضين نذكر منهم محمد بوضياف ومحمد خيضر وفرحات عباس. ورد  الرئيس بن بلة ووزير دفاعه بومدين  بمنع الجمعيات والأحزاب وقمع كل أشكال المعارضة السياسية. وبناءا على ذلك تم إلقاء القبض على حسين آيت أحمد و الحكم عليه بالإعدام بسبب انتقاداته اللاذعة لنظام بن بلة الذي لا يعترف بالتعددية السياسية. لكن الرئيس الأوتوقراطي بدأ يفقد شيئا فشيئا ثقة الجيش فيه بقيادة هواري بومدين. وقد أكتشف بومدين بأن بن بلة ينوي تنحية حليفه القوي عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يشغل منصب وزير في الحكومة وبأنه ربما سيحين دوره بعد ذلك. عندئد قام بومدين بإيحاء من بوتفليقة بتدبير انقلاب عسكري استباقي، أو كما يسميه أنصاره “التصحيح الثوري”، ضد نظام بن بلة في 19 جوان/يونيو 1965 مكنه من الاستيلاء على السلطة وبذلك تمكن الحليفان القديمان بومدين (الرئيس) وبوتفليقة (وزير الخارجية) من البقاء في دواليب الحكم حتى عام 1978. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

وحرص نظام بومدين الثوري على إعادة الجيش الوطني الشعبي – سليل جيش التحرير الوطني – إلى الواجهة وتحويله لجهاز للتسيير باعتباره السلطة الحقيقية في البلاد. ويشير المراقبون أن نظام بومدين كان أكثر أتوقراطية وديكتاتورية من نظام بن بلة الذي سبقه إذ اعتمد بشكل كبير على الشرطة السياسية لملاحقة المعارضين الذين قادوا الثورة التحريرية وقمعهم وإقصائهم من الحياة السياسية. وقد دفع محمد خيضر ثمن ذلك إذ اغتيل في مدينة مدريد الإسبانية عام 1965. واتسم عهد بومدين الإشتراكي بقرارات جريئة لتطوير الإقتصاد الوطني عن طريق ما سمي “بالثورة الزراعية” في القطاع الفلاحي وإقامة الصناعات الثقيلة المكلفة وسياسات أخرى ذات بعد ثقافي تسعى لإعادة الإعتبار للغة العربية في المدرسة والإدارة عن طريق “سياسة التعريب” بالموازاة مع تهميش المكون الآخر للهوية الجزائرية : اللغة والثقافة الأمازيغيتين. ولاشك أن نظام بومدين حصد الكثير من المؤيدين في الأوساط الشعبية بسبب إنجازاته الاقتصادية في الداخل ونجاحاته السياسية في الخارج في إطار حركة عدم الإنحياز ودعمه اللامشروط للحركات التحررية في العالم.

1-Chadli+Bendjedid
الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد

لكن وفاة الرئيس المفاجئة في 1978 وضعت البلاد في أزمة إذ أن نظام بومدين الأوتوقراطي لم يترك أي آلية واضحة لانتقال الحكم. وإن لم يكن متوقعا أن يقع الاختيار على شخص غير معروف كالشاذلي بن جديد لتسلم منصب رئيس الجمهورية، فأن مؤتمر جبهة التحرير أختار بوضوح عقيد جديد لخلافة العقيد الراحل معززا دور العسكر في الحياة السياسية. وقد اعترفت شخصيات وطنية عايشت الحدث أن قاصدي مرباح، وزير المخابرات في عهد بومدين، هو الذي أختار من سيخلف الرئيس الراحل. واستهل الرئيس الشاذلي الحكم بإجراءات ملموسة لطي صفحة بومدين بإطلاق سراح السجناء السياسيين منهم فرحات عباس وأحمد بن بلة وإبعاد حليف بومدين القديم : عبد العزيز بوتفليقة. بعد ذلك توجه الشاذلي نحو تحرير الاقتصاد مما أثار شهية أطراف في السلطة تسعى للاستحواذ بالدينار الرمزي على المنشآت الصناعية التي خلفها نظام بومدين مستفيدة من الفساد الذي عم كل مفاصل الدولة. وأدى ذلك لبروز طبقة أوليغارشية شديدة الثراء في الوقت الذي يعاني فيه عامة الشعب من تدهور المستوى المعيشي جراء انهيار أسعار النفط وعجز الدولة عن توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين.

من جهة أخرى شهدت سنوات الثمانينات بروز طبقة اجتماعية متعلمة وجماعات ذات خلفيات إيديولوجية مختلفة تنادي بإنهاء حكم الحزب الواحد والتوجه نحو التغيير الديمقراطي في البلاد. لكن النظام الحاكم رد بعنف ضد المعارضين بدءا بقمع حركة “الربيع الأمازيغي” (1980) المطالبة بإعتراف الدولة بالثقافة واللغة الأمازيغيتين ثم اعتقال المعارضين الآخرين للنظام بمختلف توجهاتهم الإيديولوجية. ولقطع الطريق أمام الناشطين اليساريين في أوساط الشباب الذين نشأوا في عهد بومدين تمت المصادقة على “قانون الأسرة” (1984) المثير للجدل والذي يعتبره المراقبون خطوة مهمة لدعم تيار المحافظين الإسلاميين. وتم بعد ذلك السماح للإسلاميين بالتغلغل في المجتمع عن طريق المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية في الوقت الذي يتعرض فيه اقتصاد البلاد لأزمة عميقة بسبب تراجع أسعار النفط في أواخر الثمانينات. وفي هذه الظروف اندلعت المظاهرات الشبابية في أكتوبر/تشرين الأول 1988 وعمت مختلف أنحاء البلاد منذرة باندلاع “الربيع الجزائري” قبل عقود مما سمي “بالربيع العربي”. واغتنم الإسلاميون الفرصة وانضموا للمظاهرات التي خلفت المئات من الضحايا. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

نتناول في الجزء الثاني مسلسل الصراع على السلطة في الجزائر منذ سنوات التسعينات إلى عهد عبد العزيز بوتفليقة.

الجزائر نت