قد يتساءل القارئ عند قراءة عنوان هذا المقال : “وما دخل السلفيين في أعمال تنظيم الدولة (داعش) في العراق أو أنصار الشريعة في تونس وليبيا ؟ هؤلاء ‘خوارج’ ولا دخل لهم في السلفية التي تعد منهج إصلاحي سلمي” ! هذه إجابة السلفية التقليدية فيما يخص الإرهاب الذي تعاني منه جل الدول الإسلامية بقيادة القاعدة و”داعش” وغيرهم من المتطرفين السلفيين. فإذا كان الإرهابيون – الذين دمروا متحف الموصل والمدن التاريخية الآشورية باعتبارها “أوثانا” وجب هدمها – يبررون أعمالهم بما تمليه عليهم “عقيدتهم السلفية”، فإن السلفيين التقليديين يبررون عدم رضاهم على أعمال داعش والقاعدة بما تمليه عليهم “عقيدتهم السلفية” التي تعتبر داعش والقاعدة “خوارج”. بعبارة أخرى، سلفيو القاعدة وداعش يستلهمون حروبهم وتفجيراتهم “بفهمهم للسلف” والسلفيون التقليديون، او ما يسمى السلفية العلمية، يرتكزون في اعتراضهم على ذلك “بفهمهم للسلف”. هنالك عندئذ قراءات متعددة للسلف في داخل التيار السلفي نفسه.
والحقيقة أن السلفية التقليدية المبجلة للحاكم والمتحالفة معه على صلة وثيقة مع مشايخ البلاط الملكي السعودي الذين يتوارثون لقب “الشيخ” كما يتوارث آل سعود لقب “الأمير”. كل سلفي علمي تراه ينحني أمام مشايخ البلاط الأحياء والأموات من أمثال محمد عبد الوهاب ، بن باز ، العثيمين، المدخلي، الخ. وفهم هؤلاء الشيوخ للسلف مرهون بعلاقاتهم الوثيقة بملوك آل سعود وقد حرموا وحللوا حسب هوى ملوك النفط وهذا لا يخفى على أحد. ولذلك فموقف السلفية العلمية التي لا تتبنى الإرهاب كمنهج للتغيير يمكن تفسيره بعدم حاجتها لذلك إذ أنها طرف في الحكم. دفاع السلفيين التقليديين عن الحكام الفاسدين وتحالفهم مع القوى الغربية في الحالة السعودية تمليه مصالحهم باعتبارهم أطرافا في الحكم.
لكن ماذا لو كان السلفي خارج الحكم أو غير منتفع به؟ كيف سيؤدي دوره كمعارضة ؟ هنا المشكلة الحقيقية، فالسلفية ليست تيار براغماتي ولا تقبل الحوار بل تتجه للعنف والإرهاب لفرض أجندتها وذلك بحسب فهمها “للسلف” ! إذا لكل فهمه للسلف الصالح حسب موقعه من السلطة. وهذا ما يفسر لجوء بن لادن السعودي للإرهاب بعدما كان مجاهدا سلفيا يلقى الدعم إبان الحرب في أفغانستان ضد السوفيات وبمباركة علماء البلاط وبمساعدة وكالة الإستخبارات الأمريكية. وذلك قد يفسر اختلاف أمير داعش أبو بكر البغدادي، الذي يتبنى الإرهاب لفرض سلطته، مع السلفيين التقليديين السعوديين وأتباعهم في جميع أنحاء العالم لأنه في حالة حرب للسطو على الحكم وقد يهدد أل سعود والوهابيين المتحالفين معهم. وخلاصة القول أن السلفيين يقتصرون على الدعوة عندما يكونون مقربون من الحكم مثل مشايخ آل سعود ووهابيي الفضائيات، ويتبنون العنف والإرهاب عندما يكونون خارج السلطة كداعش والقاعدة. لذلك ففهمهم للسلف الصالح رهينة بقربهم أو بعدهم عن السلطان.
والأعمال الإرهابية التي يقترفها تنظيم الدولة والقاعدة في العراق وسوريا لا تختلف عما يفعله في ليبيا أو أفغانستان أو تونس. هذه التنظيمات السلفية في حالة حرب من أجل السلطة والإرهاب وسيلتها لأجل بلوغ ذلك. ولو استقرت دولة البغدادي لتحولت “سلفيته” إلى سلفية موالية للحاكم وتحرم العنف لأجل ضمان استقرار الحكم بيد المشايخ والأمراء، تماما كما فعل آل سعود والوهابيون المتحالفون معهم إذ ارتكبوا الفظائع لأجل السيطرة على نجد والحجاز ثم تحولوا بعد ذلك إلى “سلفية علمية” تنادي بطاعة الملك (وشيوخه) و”لو جلد ظهرك” !
والسلفية في شقها الجهادي الإرهابي الساعي للسلطة غالبا ما تبرر حربها حسب الظروف المحلية ولكنها تفضل دائما الأسباب الطائفية لتجنيد أنصارها : ففي سوريا والعراق تبرر جهادها (حسب فهمها للسلف الصالح) بضرورة إبادة الشيعة (مذهب) والأكراد (سنة ولكن ليسوا عرب) والأقليات الأخرى من أزيديين ومسيحيين. وفي بلاد المغرب العربي يبرر الإرهابيون السلفيون حروبهم بضرورة محاربة “الطغاة” (الحكام الديكتاتوريين الذين ينافسوهم هوس السلطة) أو المرتدين (المسلمين السنة المعارضين لهم).
والديمقراطية هي العدو المشترك للسلفيين “العلميين” أو “الجهاديين” والطرفان متفقان على حرمتها، فإن سألت الشيخ العريفي أو آل الشيخ أو الطريفي أو القرني (مقربون من الحاكم) أو الظواهري وأبو بكر البغدادي (ساعون للحكم)، الإجابة واحدة : الديمقراطية حرام ولا تجوز حسب “فهمهم للسلف الصالح” ! فعلماء البلاط يرفضون الديمقراطية لأنها تههد عروش أمرائهم ومناصبهم كما في السعودية، ولهذا فهم يستميتون لمنع أي تغيير والشعب وجبت عليه طاعة الملك والشيوخ والدعاء لهم ولا ينبغي أن يفكر في إمكانية اختياره لحاكمه ! أما السلفيون الجهاديون الذين يعتمدون الإرهاب لأجل الحكم فهم يحرمون الديمقراطية لأنها قد تقصيهم من السباق ولا مجال للمغامرة وهكذا حال تونس اليوم إذ تشكل الديمقراطية أكبر تحدي للسلفيين بكل اتجاهاتهم.
ثم أن الديمقراطية هي أكبر تحدي للتيار السلفي الجهادي لأنها الوحيدة القادرة على دحض الإيديولوجية الوهابية السلفية. فالجهاديون دائما يبررون إرهابهم بتسلط الملوك وانعدام العدل والحرية، وعندما يواجهون نظاما ديمقراطيا اختاره الشعب كما في تونس لا يجدون من حل سوى الإرهاب للإضرار بالإقتصاد وإفشال الدولة. هجوم الإرهابيين السلفيين على متحف باردو ليس محض صدفة بل عمل مخطط له. فهم يريدون ضرب القطاع السياحي وإفشال التجربة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي. زد عل ذلك أن للسلفيين عداء قديم للتاريخ والآثار والفنون، فقد دمر داعش تاريخ العراق وسوريا وحرقوا متاحف وجرفوا مدنا تاريخية وهربوا كنوزا أثرية لتمويل حروبهم. كذلك فعل الوهابيون لما احتلوا مكة والمدينة إذ دمروا جميع الآثار وبيوت الصحابة واتهموا الناس بالشرك. السلفيون أينما حلوا يريدون مسح تاريخ المناطق التي يحتلونها لتسهيل السيطرة عليها وإخضاع ساكنيها لإيديولوجيتهم.
والقارئ قد يتساءل : لماذا لا يصدر مشايخ “السلفية العلمية” بيانا لإدانة الهجوم الإرهابي ؟ لماذا يلتزمون الصمت ؟! والإجابة أن ذلك قد يضر بشعبيتهم فهم يتصارعون مع أتباع “السلفية الجهادية” لكسب “معركة القلوب والعقول” ولا مجال للمجازفة بانتقاد أخطاء الفريق الآخر. كذلك يفعل السلفيون الجهاديون فهم يتحاشون انتقاد مشايخ السلاطين البارزين لأنهم يعتمدون على أدبياتهم لتبرير جهادهم. فلا عجب أن تجد أنصار داعش يستدلون بكتب محمد عبد الوهاب و بن باز والعثيمين، أكبر حلفاء آل سعود. وخلاصة القول أنه مهما اختلفت ظاهريا في صراعاتها لأجل الوصول للحكم (كداعش) أو من أجل الحفاظ عليه (السلفية السعودية)، فالإيديولوجية السلفية بمختلف تياراتها، خارج أو داخل السلطة، تتحمل الجزء الأكبر من الإرهاب الذي يسود العالم الإسلامي والذي وصل صداه للمجتمعات الغربية. وبدون إصلاح أو اجتثاث مصدر هذه الإيديولوجية الفاشية في شبه الجزيرة العربية وتوجه المجتمعات العربية نحو الديمقراطية والحريات، فإن منهج الإرهاب كوسيلة لتدمير الدول والسطو على الحكم سيستمر لعقود قادمة.
الجزائر نت