تكثر التفسيرات عندما يتعلق الأمر بأسباب تخلف البلدان العربية في جميع المجالات على الرغم من ثرائها وتوفرها على طاقات بشرية هائلة. جميع الأقطار العربية، وبدرجات متفاوتة، هي بلدان متخلفة لا يطيق العيش فيها إلا المقربون من السلطات الحاكمة أو المنتفعين منها. وعندما نتحدث عن التخلف فإننا لا نقصد فقط الجانب المادي من سكن وصحة وشغل، بل نعني أيضا البيئة المعيشية والأمن والحريات العامة وكلها عوامل أساسية للشعور بالحياة السعيدة.
المتدينون من الناس يقولون أن السبب في ذلك بكل بساطة هو تخلينا عن الدين وأنه لا مجال للتطور طالما أن الناس لم يرجعوا “للدين الصحيح” ودليلهم في ذلك أن العرب والعجم بنوا حضارة راقية عندما كانوا متدينين وما إن تركوا دينهم حتى تكالبت عليهم الأمم. يبدوا هذا الطرح جذابا للوهلة الأولى لكنه سرعان ما يصطدم بالواقع المعيش وهو أن التدين – بمفهومه التعبدي – لا يمطر أموالا بل ينبغي على الإنسان التشمير على سواعده لجلب قوت يومه. ثم أن الكثير من البلدان العلمانية في عصرنا هذا تطورت بدون تدين. دعونا نبقى في العالم الإسلامي، أيهما أكثر تدينا السعودية أم تركيا؟ السعودية بدون شك. فلماذا تتطور تركيا في جميع المجالات بدون أية موارد نفطية بينما لا تجد السعودية ما تفعل بمواردها من المحروقات ولم تجد حلولا للفقر والبطالة وأزمة السكن ؟ والشيء نفسه في الجزائر إذ بالرغم من الثروات الهائلة والأراضي الشاسعة واليد العاملة الشابة لا يزال البلد غير قادر على توفير منتوج البطاطا لمواطنيه. هل ينقصنا تدين ؟ لا. أعتقد أن مشكل التخلف الذي نعانيه لا يعود للدين بمعناه التعبدي.
بعض الناس “الوطنيين” يبررون التخلف الذي نعانيه، في الجزائر على الخصوص، بالتركة الإستعمارية الثقيلة إذ عانت البلاد لقرون من السياسات العنصرية الإستعمارية التي حرمت أجيالا من التعليم كما أن الإقتصاد الوطني كان منهارا بعيد الاستقلال وزاد الأمر تعقيدا هجرة اليد العاملة الأوروبية المدربة التي كانت تتحكم في الإقتصاد إبان الإستعمار. هذا التفسير قد يبدوا مقنعا إذا تكلمنا عن فترة الستينات والسبعينات لكنه لا يصلح لتبرير وضعنا الحالي بعد أكثر من 50 عاما من الإستقلال. فدول ككوريا الجنوبية وماليزيا تمكنت من تغيير جذري لوضعها الإقتصادي والإجتماعي في بضعة عقود وانتقلت إلى مصاف الدول الراقية. فلماذا لم نتمكن نحن، رغم مواردنا الطبيعية الهائلة، من توفير السلة الغذائية للشعب الجزائري ولازلنا نستورد كل احتياجاتنا من أوروبا وكندا و الصين ؟ في أكثر من نصف قرن من الإستقلال لم ننجح إلا في شيء واحد : تصدير النفط الخام وإستيراد كل شيء. بعبارة أخرى، إننا لم ننجح في استثمار استقلالنا لتطوير أنفسنا وبلادنا وها نحن نعلق فشلنا على شماعة الإستعمار. أليس كذلك؟
أما “اليائسون” فيرمون بالمسؤولية على الشعب قائلين أنه “كسول” لا يحب العمل ويسعى للربح السريع بلا تعب ولهذا يلجأ للطرق غير المشروعة للكسب. صحيح أن الكثير من الناس في الجزائر على وجه المثال يرفضون العمل في الفلاحة والأعمال اليدوية ولكن البيئة الإقتصادية في بلادنا لا تسمح على كل حال بالكسب المشروع إذ تغيب الشروط الأساسية للمنافسة الحقيقية. فالعديد من المحاصيل الفلاحية تترك في المزارع بسبب انخفاض سعر المنتوج في السوق وانعدام وسائل التخزين ناهيك عن المنافسة الشديدة من المنتوجات الأجنبية المستوردة. والحال نفسها بالنسبة للمنتجين الصناعيين الذين يعانون من منافسة المنتوجات الأجنبية والعراقيل التي تضعها الدولة أمام التصدير إضافة للضرائب الباهضة. وباختصار فالبيئة الإقتصادية لا تشجع على العمل والإنتاج بل على “الكسل” وانتظار إعانات الدولة. ولهذا فرمي المسؤولية على عاتق الشعب خطأ فادح إذ أنه هو بنفسه ضحية السياسات الفاشلة.
إلا أن آخرين يعتقدون أن التخلف الذي نعيشه تتحمل مسؤوليته السلطات الحاكمة التي “تداولت” (أو لم تتداول أبدا) على الحكم منذ الإستقلال. ما الذي منع أنظمة بن بلة وبومدين والشاذلي وبوتفليقة من النهوض بالبلاد ؟ حسنا، قد يقول البعض بأنهم ليسوا أكفاء وكلهم حاولوا بطريقتهم الخاصة ولم يفلحوا في إيجاد حل لجعل الجزائر بلدا “قابل للحياة”. أصحاب نظرية المؤامرة يقولون بأن القوى الغربية تمنعنا من التطور عن طريق الحكام الفاقدين للشرعية. هذا صحيح لحد ما، فالبلدان الديمقراطية لا تهتم سوى بمصالح مواطنيها فإن وجدت أنظمة فاسدة تتعامل معها فإنها ستفعل طالما أن مصالحها مضمونة. لكنها بالمقابل لا يمكنها أبدا منع شعب من تنصيب سلطة ديمقراطية تحافظ على مصالحه إن هو أراد ذلك. وهذا هو بيت القصيد، ففي الأنظمة الديمقراطية الحاكم يُنتخَب لأجل برنامج إقتصادي واجتماعي وعد به شعبه ولفترة زمنية محددة. فإن أفلح في تنفيذه سينتخب مرة أخرى وإن فشل سيترك منصبه لسياسي وشروع آخر وهكذا. المنافسة بين البرامج السياسية هي وحدها الكفيلة بالكشف عن الوصفة السحرية للتطور. ثم أن النظام الديمقراطي يحارب الرشوة والمحسوبية ويوفر بيئة أمثل للإستثمار ويضمن حيادية الدولة ودفاعها عن المصالح العامة. هذا هو أساس تطور الأمم. أما نحن فلا يزال الرئيس المريض في سدة الحكم منذ 15 عاما وقد جرب (أو لم يجرب أبدا) كل السبل بلا فائدة. وبدلا من ترك المسؤولية لشخص آخر فإنه لا يزال متشبثا بالحكم وها نحن نخسر سنوات من عمر البلد ولم نفعل شيئا وهاهم الشباب الأكفاء يغادرون البلد ومن لم يغادر سيبقى بلا مسؤولية و بلا عمل.
سبب تخلفنا ليس ديني أو استعماري كما لا يعود لطبيعة الشعب وإنما لغياب الديمقراطية التي تحاسب المسؤول أمام مواطنيه قبل أن يحاسبه خالقه. النظام الشمولي غير الشرعي السائد عندنا جربته الأمم المتحضرة قبلنا وتركته لأنه يعني غياب الحريات العامة، انعدام الشفافية، انتشار الفساد، غياب آليات الرقابة، احتقار الشعب، سرقة المال العام، الفقر، عدم الإستقرار، الإرهاب، التبعية للخارج، الخ. وكل ما نعانيه اليوم هو أننا لم نتجاوز بعد مشكلة التداول السلمي على السلطة ولا يزال المستبدون في الألفية الثالثة يستميتون في الحفاظ على كراسيهم وقهر شعوبهم. ولذلك فإن تخلف البلاد من تخلف حكامها الفاقدين للشرعية. أليس هم في الحقيقة المُتخلفون؟
الجزائر نت
تعليق واحد على “لماذا تخلفنا نحن بينما هم يتطورون؟”