كثر الحديث في الأعوام الأخيرة عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الحريات الفردية في العالم العربي، ومنهم من وصف ثورات الربيع العربي “بثورات الفيسبوك” بالنظر للدور المهم الذي لعبته هذه الوسائط الرقمية في تواصل المعارضين للديكتاتوريات العربية وتنظيمهم للإحتجاجات ضد هذه الأنظمة الشمولية. وسبق ذلك ابتهاج المختصين الغربيين في الإعلام والإتصال “بالثورات الملونة” في جمهوريات الإتحاد السوفياتي البائد في العقد الأول من الألفية الثالثة ضد الأنظمة الموالية لموسكو ثم بعد ذلك في إيران. وانتقلت عدوى الاحتجاجات التي يتم تنظيمها عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الدول الديمقراطية نفسها في السنوات الأخيرة كما هو الشأن بالنسبة للحركات المناوئة للسياسات الاقتصادية التقشفية في البرازيل واليونان وإسبانيا. اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعي في الدول الغربية الديمقراطية هو تعبير عن رفض المحتجين للطبقة السياسية المحلية وعدم رغبتهم في أن تركب هذه الأخيرة على موجات الإحتجاج لتحقيق مصالح سياسية ضيقة. وبالمقابل فإن اللجوء لفيسبوك وتويتر للتعبير عن الرأي في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية القمعية يعود لسيطرة السلطات على كل وسائل الإعلام التقليدية واحتكارها للكلمة وقمعها لكل أشكال التعبير عن الرأي و التظاهر السلمي.
وليس بالغريب أن تنطلق شرارة الربيع العربي في تونس. فهذا البلد له تاريخ في النضال على الانترنيت لأجل الديمقراطية والحرية منذ السنوات الأولى للألفية الثالثة وقبل ظهور الويب الاجتماعي. لجوء المدونين والناشطين للإعلام الاجتماعي للتعبير عن الرأي أصبح ظاهرة تعم الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية وقد تعرض العديد منهم للمحاكمات السياسية والسجن في البلدان المغاربية ومصر ودول الخليج على حد سواء. غير أن دول الخليج العربي الثرية هي التي نالت النصيب الأكبر من سجناء الرأي بسبب انتشار الإعلام الاجتماعي بشكل رهيب في الأوساط الشابة التي ضاقت ذرعا بالأنظمة المتسلطة ومن جيش المثقفين والإعلاميين ورجال الدين الذين يدافعون عنها عبر الجرائد والفضائيات. ولعل المملكة العربية السعودية هي المثال الحي “للحرب الأهلية الالكترونية” التي تدور رحاها اليوم على موقع تويتر بين الناشطين المعارضين للديكتاتورية ولمؤسساتها الإعلامية والدينية الدعائية من جهة، وجيش من الكتاب الصحافيين والمثقفين والمشايخ والأمراء والمباحث (الشرطة السياسية) من جهة أخرى.
وقد يتساءل أحدهم : لماذا السعودية بالذات؟ والجواب هو أن هذه المملكة المنغلقة تتصدر استعمال الأنترنيت في العالم العربي وتحتل المراتب الأولى في العالم في استعمال شبكة تويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي مقارنة بعدد سكانها.
وفي المقابل تأتي في ذيل الترتيب في حرية الإعلام حسب ما نشرته العام الماضي منظمة مراسلون بلا حدود إذ تأتي في المرتبة 164. وتملك المملكة العربية السعودية امبراطورية إعلامية قوية منذ عقود طويلة مكنتها من السيطرة على الرأي العام الداخلي من جهة والتأثير كقوة ناعمة على الرأي العام العربي. وبالإضافة إلى الجرائد الحكومية الصادرة في المملكة وفي لندن منذ سنوات السبعينات ومحطات الراديو تفطنت العائلة الحاكمة لقوة الإعلام التلفزيوني الفضائي في أوائل التسعينات. لذلك تم إطلاق مركز تلفزيون الشرق الأوسط (MBC) سنة 1991 والذي يضم فضائيات تقوم بنشر منتجات الصناعات الثقافية الغربية من أفلام وموسيقى (أمريكية على الخصوص) في المجتمع السعودي والبلدان الأخرى لمقاومة التيارات المحافظة في المجتمعات العربية وتقريب الرأي العام العربي من السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تبعا لما تمليه المصالح الأمريكية-السعودية. وفي عام 2003 انطلقت ” العربية” كقناة إخبارية سعودية موجهة للرأي العام العربي تتبنى خطابات “محور الإعتدال” الموالي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الذي تقوده السعودية بعدما تمكنت قطر من كسر احتكار المملكة للإعلام المؤثر في الرأي العام العربي بإطلاقها لقناة الجزيرة عام 1996.
يذكر محمد الوافي، الباحث في الشؤون السياسية العربية والمحاضر في جامعة السوربون، بأن هناك ثلاث أبعاد للأخبار التي يتشكل عبرها الرأي العام العربي في كل دولة : وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها السلطة، وسائل الإعلام الأجنبية الناطقة بالعربية (كالبي بي سي، فرانس 24، روسيا اليوم، الخ.) وأخيرا القنوات الفضائية العربية العابرة للحدود والتي تدعي بأنها تتجاوز مصالح الدول التي تمولها كقنوات الجزيرة والعربية. وارتأينا بدورنا – وهذا موضوع مقالتنا – أن نضيف بعدا رابعا مؤثرا في الرأي العام العربي ويتعلق بالإعلام الإلكتروني العابر للحدود والخارج عن سيطرة الأنظمة العربية الديكتاتورية. وفي السعودية يشكل الإعلام الإجتماعي أداة حقيقية للتأثير على الرأي العام الذي لا يصدق دائما الرواية الرسمية للأحداث التي ينقلها الإعلام الحكومي. وذكرت مؤخرا مواقع مختصة أن السعودية لا تزال تحتل المرتبة الأولى في استعمال موقع التدوين المصغر تويتر في منطقة الشرق الأوسط. وعلى خلاف المواقع الأخرى يتخصص موقع تويتر في نشر الأخبار وتداول الروابط التي تدل عيها في رسائل لا تتجاوز 140 حرفا. وبالنظر للغياب التام لحرية التعبير والتجمع، بل والحق في الحديث عن الأمور السياسية، فإن الكثير من السعوديين توجهوا لهذا الموقع للتعبير عن آرائهم وانتقاد تصرفات العائلة الحاكمة والمثقفين والمشايخ التابعين لها.
وعند تفحصنا لما ينشره بعض الناشطين المدونين على تويتر على مدى أسابيع، اكتشفنا بدهشة بالغة أن المدونين السعوديين على تويتر لا يطالبون بالديمقراطية كحل للاستبداد الذي تعيشه البلاد كما فعل نظرائهم في تونس ومصر، بل يطالبون فقط ببعض الإصلاحات السياسية التي تكفل حل المشاكل الإجتماعية التي يعيشها المواطن السعودي وهي البطالة وأزمة السكن. سقف المطالب إذا ضعيف بالنظر للقمع الذي يتعرض له المواطن وحرمانه من جميع حقوقه السياسية لصالح أبناء وأحفاد آل سعود وآل الشيخ. كما لا يخفى على الجميع أن ثقافة الإنتخاب غائبة عن المجتمع السعودي الذي تربى على “تحريم” الإنتخاب والديمقراطية من طرف مشايخ الوهابية المتحالفين مع السلطان باعتبارها “شر غربي” لا يجوز تبنيه حتى تضمن العائلة المالكة توارث الحكم للأجيال القادمة. أغلب الناشطين يؤدون دور الصحافي المستقل الذي يحلل مضامين الإعلام التقليدي ثم يعيد صياغتها ونشرها للمتابعين لفضح الدعاية الحكومية والصحافيين الموالين لها ومن ثم إبراز فساد العائلة الحاكمة وتقييدها للحريات.
هدايا #سعودية لزوجة أوباما بقيمة 1.1 مليون دولار!!https://t.co/kYzoKfBbIQ pic.twitter.com/bUw5Bg7jME
— الشيخ بوب (@chaikhbob) ٢٧ نوفمبر ٢٠١٥
أستاذ @JKhashoggi لم توضّح مَن هم :"الغاضبين واليائسين"!
-الغاضبين: من استمرار تكميم الأفواه
-واليائسين: من الإصلاح! pic.twitter.com/zyUUdGS1ge— نحو الحرية (@hureyaksa) ٢١ نوفمبر ٢٠١٥
آخرون يتهكمون أيضا على مشايخ تويتر الموالين للسلطة والمبررين لسياساتها. لكن المغرد “مجتهد” هو بدون شك الأكثر تأثيرا ونفوذا على الإطلاق. وعلى عكس المغردين الآخرين المعارضين للعائلة الحاكمة، فإن مجتهد ينفرد منذ سنوات بنشر مضامين إعلامية تخص الأسرة الحاكمة وتحضى بالكثير من المصداقية.
بدأت تصرفات الملك كمصاب بالزهايمر تتضح أكثر للجمهور يوم أمس حين استقبل مجموعة من الأعيان وشيوخ الهجر والقبائل وحين الصلاة على بندر بن فيصل
— مجتهد (@mujtahidd) ٢٥ نوفمبر ٢٠١٥
وقد غضب محمد بن سلمان وقام بتوبيخ مسؤولي المراسم ثم وجه أوامره أن يقتصر في المستقبل على ٥٠ شخص ويكونوا مختارين بعناية حتى يحفظوا السر
— مجتهد (@mujtahidd) ٢٥ نوفمبر ٢٠١٥
ثم بعد ذهابه للصلاة على بندر بن فيصل صدرت منه تصرفات دلت على أنه لا يعرف لماذا حضر وأين حضر ولا من هو المتوفي وكرر التضايق من حراسه ومرافقيه
— مجتهد (@mujtahidd) ٢٥ نوفمبر ٢٠١٥
وقد نشرت عدة وسائل إعلام دولية أخبارا نقلا عن مجتهد وهذا ما يدل على مصداقية هذه الشخصية غير المعروفة وتأثيرها على الرأي العام المحلي. وتعرض حساب مجتهد لمحاولات اختراق عديدة آخرها كانت في الشهر الماضي. كما حاولت السلطات السعودية أكثر من مرة الضغط على شركة تويتر للحصول على معلومات تمكنها من تعقب المعارضين السياسيين الناشطين على الشبكة لكن دون جدوى. فهل انفلات الإعلام الاجتماعي من قبضة الأنظمة العربية الديكتاتورية، والسعودية نموذجا، سيشكل خطرا داهما عليها ؟ هل سيشهد العالم العربي المزيد مما يسمى “الثورات 2.0” ؟ أم أن قوة الإعلام الإجتماعي في الحياة السياسية مبالغ فيها ؟
المختصون في الإعلام منقسمون في فيما يخص “أوتوبيا الإتصال” الحالية. فمنهم من يبتهج بكل ما هو جديد في تقنيات الإعلام ويعتبر ذلك خطوة حاسمة نحو مجتمع الحريات والعدالة والشفافية الذي سيسود العالم الذي أصبح بفضل ذلك “قرية صغيرة”. ومنهم من يشكك في قدرة الإعلام الجديد على نشر الديمقراطية والحرية باعتبار أن الأنظمة الشمولية تبتكر دائما آليات للالتفاف على كل ما هو جديد وتحويله كبوق لصالحها.
إضافة إلى ذلك فإن التغيرات نحو مجتمعات الديمقراطية والحرية تتحكم فيها عوامل إجتماعية وسياسية وفكرية متشابكة وليس فقط تكنولوجيات الإتصال، والدليل على ذلك أن ثورات الربيع العربي فشلت كلها – باستثناء التجربة التونسية الفتية – في الإطاحة بالديكتاتورية. لسنا متشائمين ولكننا نميل لهذا الرأي الأخير ونعتقد بأن الإعلام الإجتماعي لا يكفي لتغيير الأوضاع رغم أنه مكن المواطنين من إيصال أصواتهم والتعبير عن آرائهم عبر هذا الفضاء الإفتراضي. صحيح أن وسائل التواصل ساهمت في تجاوز التعتيم الحكومي على الخبر والمعلومة لكن ذلك لم يثن السلطة عن مواصلة الدعاية عبر هذه القنوات الجديدة بالإعتماد على المثقفين والمشايخ والشرطة السياسية (المباحث) الناشطين على النت. بالإضافة إلى ذلك فإن مواقع التواصل تشكل حقلا خصبا لجمع المعلومات حول المواطنين وتتبع آثارهم والقبض عليهم. ولا يخف على أحد أن الحكومات العربية القمعية تلجأ لشراء أجهزة متطورة من الشركات الأمنية الغربية لفحض المضامين المنشورة على الأنترنيت وقمع المدونين بحجة “الحرب على الإرهاب”، لكن غالبا ما يتم استهداف الناشطين والمدونين لكشف هوياتهم وإسكاتهم. وللحديث بقية.
الجزائر نت