بمجرد مشاهدتي للحوار الذي أجرته قناة الشروق التلفزيونية بين الإسلامي العروبي عبد المنعم شيتور والعلماني الفرنكفوني عبدو سمار، تبادر إلى ذهني السؤالي الآتي : لماذا أضحى الحوار مستحيلا بين المتطرفين الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء في الجزائر والعالم العربي بشكل عام ؟ لا أحد يشك في الشرخ الكبير الذي يفصل بين المثقفين العلمانيين الفرانكفونيين والإسلاميين العروبيين في الجزائر ويتجلى هذا يوميا في الحرب المعلنة بين الفريقين في المؤسسات الإعلامية والجامعات والمساجد، الخ.
يعتقد الإسلاميون بمختلف أطيافهم في الجزائر أن الحفاظ على الهوية الوطنية الجزائرية يمر حتما بترقية استعمال اللغة العربية وفسح مجال أوسع لتدريس العلوم الإسلامية لسد الطريق أمام فريق “التغريب” الذي يقوده العلمانيون المتفرنسون. هذه النظرة المحافظة للمجتمع الجزائري تجد آذانا صاغية وامتدادا إيديولوجيا في المشرق العربي الذي يزخر بالدعاة والعلماء ” النجوم” الحاضرين في منازل كل الجزائريين عبر القنوات التلفزيونية الفضائية ووسائل التواصل الإجتماعي. وإلى جانب العودة إلى الإرث العربي الإسلامي، ينادي التيار الإسلامي العروبي بإقصاء الموروث الثقافي واللغوي الفرنسي من البلاد باعتباره تهديد للهوية الجزائرية التي مات لأجلها ملايين الشهداء بعد أكثر من قرن من المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي.
في المقابل يعتقد المثقفون الفرانكفونيون بأن الهوية الجزائرية قد تمت مصادرتها بعد الإستقلال من طرف أنصار سياسة التعريب في المدرسة والإعلام وأنه لا يمكن اختزالها في ثقافة عربية-إسلامية مستوردة من السعودية أو مصر. للجزائر إذا إرثها الحضاري الخاص والذي يشمل حسب بعضهم اللغة الأمازيغية ولكن بالخصوص الإرث الثقافي واللغوي “الإستعماري” ولهذا ينبغي الحفاظ على استعمال اللغة الفرنسية في الجزائر باعتبارها “غنيمة حرب” . إيديولوجيا يؤمن هذا التيار بضرورة المضي في سياسة العلمانية – على الطريقة الفرنسية – للرقي بحقوق الإنسان في الجزائر وإقامة نظام ديمقراطي يميل إلى النموذج الفرنسي القائم على الفصل الراديكالي بين المؤسسة الدينية والدولة.
وكمؤشر لغياب ثقافة الحوار في البلاد، يؤمن المثقفون والسياسيون المنتمون لكلا التيارين إيمانا قاطعا بأنهم يمثلون المشروع الأصلح للمجتمع الجزائري ويرفضون تقديم أي تنازلات للفريق الخصم للوصول لأرضية مشتركة. فالإسلاميون العروبيون المتشددون يتهمون الفرانكفونيين بالخيانة وبأنهم “عملاء فرنسا” وأنهم أصحاب “مشروع تغريبي صهيوصليبي” يمثل خطرا وجوديا على الهوية الجزائرية. أما الفرانكفونيين المتطرفين فيرون في الإسلاميين العروبيين أصحاب مشروع رجعي يشكلون عقبة أمام التقدم والديمقراطية وأنهم يحملون أفكارا عفى عنها الزمن لا تحترم الحريات الفردية وتؤدي إلى التخلف والعنف.
ويحاول كل فريق تقديم نفسه للرأي العام الجزائري – في إطار هذه الحرب الإيديولوجية – أنه ضحية الفريق الآخر وإعلامه. فالإسلاميون يقدمون أنفسهم بأنهم حماة الدين والهوية وأنهم ضحية الحملات التغريبية “الصليبية” وأعوانهم التي تود تشويههم ورميهم بالرجعية والإرهاب وأنهم في الحقيقة حماة للدين والعروبة وأنهم “شوكة في حلق العلمانيين” المتنفذين في الإعلام.
أما المتشددون العلمانيون فيؤكدون من جهتهم بأنهم ضحية التطرف الإسلامي-العروبي الرجعي الذي لا يقبل الحرية وينادي للكراهية والعنف والإستبداد. ويجد العلمانيون آذانا صاغية في الغرب الذي يخوض حروبا عديدة في العالم العربي-الإسلامي وسرعان ما يتم استضافتهم وتكريمهم لشجاعتهم في مقاومة “المد الإسلامي الظلامي” الذي يشكل حسبهم عدوا مشتركا للحريات وحقوق المرأة و الديمقراطية.
مما سبق نرى إذا أن الحرب الإيديولوجية بين الفريقين لا تخدم تطلعات اغلب الجزائريين الذين لا يهمهم سوى إقامة دولة الحقوق والحريات التي تضمن العيش الكريم لكل المواطنين باختلاف آرائهم وثقافاتهم. فالجزائريون يجدون أنفسهم في نهاية المطاف رهائن لصناع الرأي المتطرفين من كلا الفريقين. فإقامة مجتمع إسلامي-عروبي أو علماني فرنكفوني خالص غير ممكن اليوم في البلاد لأنه كما لا يمكن مسح تركة مائة وثلاثين عاما من الإحتلال الفرنسي فإنه لا يمكن أبدا تهميش إرث ألف عام من الحضور العربي الإسلامي في شمال إفريقيا. صحيح أنه ينبغي الحفاظ على موروثنا الثقافي الإسلامي-العربي لكن ذلك لا يمنع من الإنفتاح على محيطنا المتوسطي الأوروبي فالحضارات والثقافات دائما تتغذى من بعضها البعض. ثم إن أولوية الجزائريين اليوم هي الانتقال من النظام السياسي الشمولي – الذي يضم بكل غرابة الفرانكفونيين العلمانيين والعروبيين المحافظين على حد سواء – إلى مجتمع العدل والحريات الذي تحارب فية الرشوة والفساد وتوزع فيه الثروة بشفافية وتحترم فيه الحقوق ، الخ. ألا تشكل هذه المطالب أرضية مشتركة يمكن أن يجتمع عليها أي إسلامي إصلاحي غير متزمت أو ديمقراطي منفتح غير متطرف ؟
على أية حال، الجدل غير المجدي بين الفريقين لا يخدم إلا مصلحة النظام الشمولي الذي أهدر خيرات البلاد منذ الإستقلال – والذي يضم في أعوانه منتفعين من كلا الطرفين المتخاصمين – ولن يطيل عمره إلا هذه الخرجات الإعلامية التي تحول أنظار الجزائريين من المشكلة الأساسية التي تهدد البلاد ( الديكتاتورية ) إلى معضلات جانبية لا تعدو أن تكون سوى قضايا اختلاف في الرأي عادية كما هو سائد في سائر المجتمعات البشرية.
الجزائر نت