كغيره من التيارات الأيديولوجية، يتضمن الخطاب السلفي الديني رسائل سياسية خفية تضمن مصالح الجهات التي تعتمده لتعزيز سيطرتها على الجماهير وتأثيرها على محيطها الإقليمي.
وكما يعلم الجميع فإن تيار السلفية (أو الوهابية إذا أردنا حصره في دوره السياسي) الذي تعتمده المملكة السعودية حاليا وتصدره للعالم يتغذى على التحالف التاريخي الذي أُقيم في أواسط القرن 18 في الجزيرة العربية بين الشيخ محمد عبد الوهاب وأحفاده من بعده (خطاب ديني) وبن سعود وأحفاده من بعده (خطاب سياسي) والقائم إلى يومنا هذا. ولهذا فإن حماية سلطة هذا التحالف و زيادة نفوذه في الداخل و الخارج يعتمد على تسويق هذه الإيديولوجية الدينية-السياسية، التي نسميها “الوهابية-السعودية” أو “السعوهابية”، بالتخفي تحت خطاب ديني خالص خال في ظاهره من المصالح السياسية الدنيوية للتأثير في الجماهير العربية والإسلامية.
ولاريب أن تجد السلفيين في الجزائر وغيرها من البلاد العربية يبررون انضمامهم لهذا التيار عن قناعة دينية معتقدين بأن السلفية السعودية هي المنهج الذي يمثل الإسلام الصحيح النقي كما قيل لهم، الخالي من البدع والأقرب لإسلام الأولين، غير آبهين بالأهداف السياسية المتعلقة بالحكم والتي يخفيها عنهم المشايخ ولكنها تصب دائما في مصلحة المنتفعين من هذا التيار، أي ملوك المملكة السعودية وحلفائهم الدينيين من أحفاد محمد عبد الوهاب وأتباعهم. ويعتقد المنضمون لهذه الإيديولوجية أن هدف مشايخ السلفية السعوديين وغيرهم هو نصرة الإسلام الصحيح وهداية الناس للدين الحق – وهو هدف نبيل في ظاهره – وأنهم لا يخدمون أية أجندة سياسية وهدفهم هو هداية الناس فقط. والحقيقة أن وظائف هؤلاء المشايخ ليست دينية خالصة بل سياسية أيضا لكن الخطاب السياسي غالبا ما يتم إخفاؤه عن عامة الناس لتجنب أي “تمرد” قد يتعرض لمصداقية الأمراء والمشايخ الحاكمين ويُنقص من هيبتهم. فالدين بصفة عامة، وليس التيار السلفي فحسب، قد يُوظَف لخدمة الحاكم وشرعنة سلطته (مصالح سياسية دنيوية) رغم أن شيوخه وكهنته يؤكدون للناس بأن هدفهم نبيل لوجه الله تعالى (رسالة دينية خالصة) وهو تعليم الناس دينهم وهدايتهم للطريق الصحيح.
ولتبيان ذلك، أرتأينا أن نعلق على لافتة يتبادلها السلفيون على وسائل التواصل الإجتماعي تلخص المبادئ الأساسية التي ينبغى على أي سلفي الإيمان بها إن أراد الإنضمام إلى هذا “المنهج” الذي ينادي به ملوك آل سعود والمشايخ الوهابيين المتحالفين معهم منذ عقود. ولطالما اتهمنا منتقدونا بأننا نركز على التيار السلفي في مقالاتنا ونتناسى التيارات الأخرى، والإجابة هي أن هذا التيار هو الأكثر انتشارا في بلادنا والأخطر برأينا لأنه يرفض رفضا قاطعا الديمقراطية كنظام سياسي و يفضل التعايش مع الديكتاتوريات الفاسدة بينما نحن لا نؤمن بالملكية المطلقة كنظام حكم ونعتقد أن الديمقراطية، رغم عيوبها، هي اليوم الوسيلة الأفضل للنهوض والتحضر ونشر قيم العدالة والحرية التي لا تتناقض مع ثقافتنا وتاريخنا.
فكما ورد في اللافتة أعلاه، يبدأ السلفي بشرح “منهجه” (التيار السلفي) بأنه “مسلم متبع للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة”. ذلك معناه أن السلفي يفهم الإسلام حسب ما كان سائدا في القرون الأولى الثلاثة المفضلة، يعني قبل أن يطرأ على الدين التجديد والبدع. هذا مبدأ جذاب ولا أحد ينكره، فلا يوجد مسلم ينكر التراث الذي جاء به الصحابة والخلفاء الأوائل والتابعين لكن فهمه وتفسيره هو الذي يختلف فيه الناس. فالكثير من المفكرين الإسلاميين يضعون هذا التراث في سياقه التاريخي. فما حدث في القرن التاسع مثلا يجب أن يُفهم حسب الأوضاع الاجتماعية والثقافية السائدة آنذاك وهذا يدعوا لاستخدام للعقل وللعلوم الإنسانية والإجتماعية لفهم التراث الديني حسب ظروف نشأته. بينما يصر أصحاب الفكر النقلي (ومنهم السلفيون) على الفهم الحرفي المجرد للنصوص بدون الرجوع لسياقها التاريخي ولظروفها المكانية والزمانية وهذا ما قد يختلف فيه المفسرون. ثم أن سلف الأمة ماتوا جميعهم، ألا يرجع السلفيون إذا إلى النصوص التي وصلتنا إلى يومنا هذا ويفسروها حسب ظروفهم الحالية ؟ ومن يقرأ هذه النصوص ويفسرها اليوم ؟ أليسوا علماء لم يعاصروا هذه القرون المفضلة بل قرؤوا ما وجدوا من نصوص ؟ ولذلك فمبدأ “إتباع الكتاب والسنة حسب فهم سلف الأمة” الذي ينادي به أتباع السلفية السعودية قد لا يعدوا سوى ” إتباع الكتاب والسنة حسب فهم علماء آل سعود الحاليين لسلف الأمة” والفرق كبير بين المبدئين.
ثم إن فهم علماء اليوم مرهون بوضعهم الإجتماعي والسياسي، ففهم رجل دين في السعودية قد يختلف عن آخر في الجزائر في بعض القضايا المجتمعية وسأضرب مثالا : في السعودية قيادة المرأة للسيارة حرام حسب فتاوى السلفيين هناك مراعاة لطبيعة مجتمعهم القبلي الذي لا يتقبل فكرة إمكانية قيادة المرأة لسيارتها، بينما في الجزائر ومصر لا يرى علماء الدين ضرورة لتحريم قيادة السيارة. إذا فالإجتهادات الدينية مرهونة بالنصوص و الظروف الاجتماعية في آن واحد . وفهم الناس في الماضي للسلف قد يختلف عن فهمهم اليوم أو في المستقبل وهكذا، هذه سنة الحياة. ونحن نعتقد أن وقوف مشايخ السلفية السعوديين، وهم شركاء في الحكم، في وجه أي تغيير اجتماعي يسعى في الحقيقة لمنع الناس في بلادهم من التحرر من النظام القبلي الملكي الديني والتوجه لنظام اجتماعي وسياسي حداثي مغاير قد يهدد سيطرتهم على المجتمع وتوارثهم للسلطة والأموال. ثم هل أمر السلف الصالح بالحكم الملكي الوراثي المطلق الذي تقوم عليه المملكة السعودية-الوهابية ؟ لا، أبدا.بل هو بدعة !
أما مبدأ “التبرؤ من الخوارج وأهل التكفير” فيحوي رسالة سياسية مبطنة رغم أنه يحاول اتهام المعارضين لحكم آل سعود والوهابيين المتحالفين معهم، وإن كانوا سلميين، بأنهم خوارج تكفيريين في إشارة لأولئك الذين خرجوا ضد حكم الأمويين وغيرهم. وكأن حكام السعودية يعتبرون أنفسهم خلفاء و بأنهم أحق بالحكم رغم فسادهم وطغيانهم وينزعون الشرعية عن أية معارضة تهدد عروشهم. واعتمادا على الشرعية الدينية التي وهبها أياهم الوهابيون، فإن أي انتقاد لتصرفات الملوك والمشايخ ممنوع وقد يُرمى صاحبه بتهمة الخروج عن الحاكم والتي تستدعي عقوبات صارمة.وكذلك الأمر بالنسبة لشعار “التبرؤ من سفك دماء المسلمين” فهو إن كان في ظاهره ينشد السلام فإنه يُستعمل للتصدي للسلفيين الجهاديين الذين يعارضون حكم آل سعود وعلمائهم (كالقاعدة أو داعش مثلا) واتهامهم بقتل المسلمين وبأنهم خوارج وجب سحقهم.
وفي الواقع يشارك آل سعود بمباركة علمائهم في سفك دماء المسلمين منذ زمن طويل بالتحالف مع القوى الغربية ولعل البعض يتذكر فتاوى الوهابيين إبان حرب الخليج التي رحبت بقوات المارينز الأمريكية في البقاع المقدسة وشرعنت احتلالها للعراق الذي راح ضحيته الملايين من المسلمين. ولا يخفى على أحد دعم الوهابيين للإرهاب في الدول العربية غير الموالية لآل سعود (سوريا والعراق وليبيا). و يقصف آل سعود اليمن منذ أسابيع بمباركة مشايخ السلفية وراح ضحية ذلك الآلاف من المسلمين اليمنيين. ونستنتج من ذلك أن شعارات السلفية هي لحماية سلطة الأمراء والمشايخ الذين لا يترددون في سفك دماء المسلمين لخدمة مصالحهم. وكذلك الأمر بالنسبة لمبادئ “التبرؤ من الإخوان المسلمين” و من “الديمقراطية والعلمانية” و “الثورات والمظاهرات والإعتصامات”، الخ. كل هذه الشعارات التي تتستر وراء الدين تحمل في طياتها مصالح سياسية دنيوية يستفيد منها السلاطين والشيوخ في تثبيت حكمهم وتوارثه. هذا ما سنتعرض له في الجزء الثاني من المقال. اقرأ الجزء الثاني من مقال “الرسائل السياسية الخفية في معتقدات تيار السلفية”.
الجزائر نت
لا أجد تعليقا إلا إني أوافقك أحسنت