المُتأمل للصراع الدائر اليوم في سوريا بين النظام الحاكم وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة والجهاديين “ثوار الحرية ؟” المدعومين من بعض دول الخليج وحليفهم الأمريكي من جهة أخرى يستحضر بدون شك أول تصادم بين الروس والجهاديين في أفغانستان وما خلفه من إفرازات على تيار السلفية الجهادية. فقد شكلت الحرب السوفياتية في أفغانستان في سنوات الثمانينات من القرن الماضي حلقة حاسمة في الصراع البارد بين المعسكرين الشيوعي الشرقي والليبرالي الديمقراطي الغربي الذي ميز النصف الثاني من القرن الماضي والذي انتهى كما هو معلوم بانتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وانهيار الإتحاد السوفياتي.
السوفيات تدخلوا عسكريا في أفغانستان لمساندة حليفهم الشيوعي الذي يقود البلاد ولكنهم تفاجؤوا بحرب غير تقليدية يقودها جهاديون ذو بأس شديد عازمين على الموت لأجل قضية تبدو عادلة : طرد المحتل الشيوعي “الملحد” وتحكيم الشريعة. تعثرت الآلة العسكرية السوفياتية الضخمة المُعدة أصلا لحرب تقليدية مع غريمها الغربي أمام تكتيكات الجهاديين متعددي الجنسيات المدعومين إيديولوجيا وماليا من دول الخليج الثرية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وعسكريا من الولايات المتحدة وأذرعها الإستخباراتية المختلفة.
عندما ينقلب الجهاديون على حلفائهم القدامى
كان الجهاديون، ومنهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، يظهرون في الإعلام الغربي كجنود “خير” يقاتلون لأجل التحرر من “شر” الإستبداديين الشيوعيين. لكن هؤلاء هم من شكلوا في أواخر الثمانينات نواة تنظيم “قاعدة الجهاد” وانقلبوا على الأمريكان بعد أن وضعت الحرب أوزارها ثم على ملوك ومشايخ آل سعود، حلفائهم السابقين، بسبب احتمائهم بجنود المارينز الأمريكان وفتح الأراضي المقدسة لهم لغزو العراق وطرد جنود صدام حسين من الكويت. هؤلاء الجهاديون هم من استهدفوا في سنوات التسعينات المصالح السعودية و الأمريكية قبل أن يحوزوا على شرف تنظيم وتنفيذ مؤامرة 11/9 والتي مكنت في النهاية الحليف السابق، الولايات المتحدة، من غزو أفغانستان والعراق في ظل تراجع لدور الغريم الروسي الغارق في تسيير تركة الإتحاد السوفيتي المنهار. وابتكر جورج بوش ما يسمى “الحرب على الإرهاب” كوسيلة لكبت الحريات في الداخل وتحقيق مطامع أمريكا في الخارج وابتزاز الأنظمة العربية الموالية لها وتهديد تلك التي لا تدور في فلكها.
انهار نظام طالبان الذين كانت تعترف به السعودية وحليفها الباكستاني وتمت الإطاحة بصدام حسين الذي هدد العائلات الحاكمة في الخليج المتحالفة مع الولايات المتحدة. ظن الأمريكان أن بإمكانهم بسط سيطرتهم على العراق وإقامة نظام “كرزاني” في بغداد، لكن المحتل اصطدم بمقاومة الشعب العراقي التي سرعان ما استثمرها الجهاديون السلفيون لإقامة فرع “القاعدة في العراق” بقيادة الجهادي السلفي من أصل أردني أبو مصعب الزرقاوي الذي حارب السوفيات في أفغانستان قبل أن يؤسس تنظيم “التوحيد والجهاد” في تسعينات القرن الماضي. وفي عام 2006 تم الإعلان عن تأسيس ما سمي “بدولة العراق الإسلامية” التي تمددت إلى سوريا في غمرة أحداث الربيع العربي واغتنمت فرصة الفوضى السائدة هناك لإنشاء فرع لها في سوريا تم تسويقه لجمهور السلفية الجهادية تحت تسمية “جبهة النصرة” كفرع للقاعدة ولكنه سرعان ما انفصل عنه بسبب التنافس الشديد بين قادة الجهاديين حول زعامة تيار السلفية الجهادية. تحول تنظيم الجهاديين السلفيين في العراق من “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إلى “الدولة الإسلامية” بقيادة أبو بكر البغدادي الذي أعلن عن نفسه “خليفة” في جوان/حزيران 2014 ساحبا البساط من تحت قدمي زعيم القاعدة أيمن الظواهري.
ما أشبه اليوم بالبارحة !
الجميع يعلم مدى انخراط تركيا أردوغان وقطر والسعودية في الحرب الدائرة في سوريا بين نظام الأسد ومئات التنظيمات الجهادية وكل ذلك بمباركة أمريكية. وكمنافس للأسد وحلفائه اللبنانيين والإيرانيين والروس، يقف الحلف التقليدي الخليجي الأمريكي وراء الدعم الذي تتلقاه التنظيمات الجهادية “المعتدلة” في سوريا والتي تعرفها جيدا المخابرات الأمريكية والخليجية إذ سبق أن حركتها في الماضي ضد العدو السوفياتي قبل أن تنقلب عليها وتحاربها بدورها. ورغم تيقن العائلات الخليجية الحاكمة من خطورة دعم تيار السلفية الجهادية الذي سينقلب عليها عندما تحين الفرصة، فإنها سمحت للمشايخ والدعاة بتأجيج الصراع في سوريا وتصويره للناس بأنه حرب مقدسة لنصرة المسلمين ليس ضد “الشيوعيين الملحدين” كما كان الأمر في أفغانستان، بل هذه المرة ضد “الكفار الشيعة والنصيريين”.
والأمر مفهوم إذ من المستحيل تجنيد المقاتلين وبث الحماس فيهم دون الإعتماد على الوصفة الساحرة للبروباغندا السلفية الجهادية التي تعد الشباب المجندين بالنصر أو الشهادة. سمح ذلك لخصوم نظام الأسد بعسكرة الثورة السورية المطالبة أصلا بالحرية والديمقراطية وتحويلها لحرب دينية لتحكيم الشريعة بمفهومها السلفي تستوجب الجهاد بالمال والنفس تماما كما كان الأمر في الحرب السوفياتية الأفغانية. وبعد قرابة الخمس سنوات من الحرب التي راح ضحيتها مئات الآلاف من السوريين من المعارضين والموالين للنظام والأجانب المتطوعين، المدفوعين بفتاوى الجهاد، تتدخل روسيا بوتين رسميا في النزاع الدائر دفاعا عن آخر حليف لها في منطقة الشرق الأوسط في حرب جديدة “ضد الإرهاب“. وكأن التاريخ يعيد نفسه إذ نجد التنظيمات السلفية الجهادية “المعتدلة” المدعومة من دول الخليج والولايات المتحدة من جهة، ونظام مقرب من موسكو من جهة أخرى. فما أشبه اليوم بالبارحة !
الفروق الجوهرية بين الأمس واليوم
لكن برأينا الوضع يختلف بعض الشيء عن الحروب السابقة بالوكالة بين الروس والأمريكان. فالدول الخليجية التي توفر الغطاء الإيديولوجي والدعم المالي “للمجاهدين” تجد نفسها في منطقة الخطر إذ أنه من الصعب اليوم السيطرة كليا على الخطاب السلفي الجهادي وتوجيهه لمصلحتها ومصلحة الحليف الأمريكي. فتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) السلفي الجهادي خارج عن سيطرة مشايخ السلطان السلفيين ولا يعترف بالأنظمة الخليجية التابعة لواشنطن وهو بذلك يشكل خطرا أكبر عليها، فهل ستخاطر هذه الأنظمة بمواصلة دعم “الجهاد” في سوريا الذي يصب في مصلحة الجهاديين “غير المعتدلين” ؟ ثم أن النظام السوري يملك حليفا إقليميا لا يستهان به، ويتمثل في إيران، والذي بإمكانه التأثير في الأقليات الشيعية المهمشة التي تعيش في دول الخليج، فمن بيته من زجاج سيتجنب بدون شك رمي بيوت الآخرين بالحجارة ! فهل تعي العائلات الحاكمة في الخليج ذلك ؟ بالإضافة إلى أن بعض الدول الخليجية منخرطة في حرب أخرى في اليمن وقد كلفتها الكثير من الأموال في عز الأزمة النفطية المستمرة منذ عام. كما أن أمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس وهي لا تريد الإنخراط في حروب جديدة في الشرق الأوسط بعد تجاربها المريرة في العراق وأفغانستان في الوقت الذي تنمي فيه الصين من قدراتها الإقتصادية والعسكرية في شرق آسيا.
كلا الفريقان المتخاصمان في سوريا لم يقولا كلمتهما الأخيرة، لكن الخاسر الوحيد في هذه الحرب هم العرب أنفسهم وعلى رأسهم الشعب السوري. لا يمكن أبدا تخيل صراع بين موسكو وواشنطن في شكل حرب باردة جديدة، فالحرب السورية تشكل صراع مصالح بين قوى كبرى وليست حرب فيما بينها ولن تجن منها الدول العربية التي تدعم الإقتتال إلا الإرهاب وعدم الإستقرار والمزيد من التبعية لواشنطن وموسكو على حد سواء.لقد انهار الإتحاد السوفياتي في الماضي وتمكن الجهاديون من إقامة دولتهم الطالبانية في أفغانستان لفترة، وهذا ما لا يمكن قبول حدوثه في سوريا ليس من طرف نظام الأسد وحلفائه فحسب، بل من خصومه العرب في الخليج الذين يدركون حجم الخطر الذي يداهم أنظمتهم الأوتوقراطية الهشة قبل أن يهدد موسكو أو واشنطن. وفي شرق أوسط مليء بالمفاجآت، قد تكلف الحرب الدائرة في سوريا والانهزام المحتمل للجهاديين فيها انتقال “عدوى الجهاد” إلى بعض دول الخليج المعروفة بتصديرها لهم ولإيديولوجيتهم. ولن تحميها واشنطن عندئد، فقد أسر باراك أوباما في إحدى تصريحاته بأن الخطر الذي يداهم دول الخليج داخلي وليس خارجي … واللبيب بالإشارة يفهم.
الجزائر نت