لا شك أن الهجوم الدموي الذي تعرضت له صحيفة “شارلي إيبدو” سيترك آثارا عميقة على الجدل القديم المتجدد في الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية الفرنسية حول وضعية الإسلام في هذا البلد العلماني. لا توجد إحصائية دقيقة لعدد المسلمين في فرنسا اليوم بسبب منع القانون الفرنسي لأي إحصاء يقوم على خلفية دينية أو عرقية، لكن بعض الأوساط تقدر الأقلية المسلمة بحوالي 6 ملايين شخص ينحدر معظمهم من أصول مغاربية وإفريقية. ويختلط أحيانا التفكير حول وضع الإسلام في فرنسا بالجدل حول سياسات الهجرة وقدرة المجتمع الفرنسي على استيعاب المهاجرين الجدد من أصول غير أوروبية.
شهدت فرنسا قبيل أحداث باريس جدلا واسعا حول وضعية الإسلام في الجمهورية الفرنسية اللائكية خصوصا بعد نشر كتاب “الإنتحار الفرنسي” للكاتب والصحفي المثير للجدل إيريك زمور، المقرب من أفكار اليمين الفرنسي الأكثر تشددا، والذي يطرح للنقاش “مشكلة” تواجد الإسلام في فرنسا والغرب والتحدي الذي سيواجهه البلد بعد فشل كل من اليساريين والمحافظين الذين تناوبوا على السلطة في درأ “الحرب الأهلية” القادمة كما يزعم. ولقى تصريح هذا الكاتب لدورية إيطالية – ومفاده أنه لا مناص من تهجير ملايين المسلمين الفرنسيين إلى بلدانهم الأصلية لعدم توافق معتقداتهم مع الديمقراطية الغربية وقيمها – تنديدا واسعا من الطبقة السياسية والجمعيات المناهضة للعنصرية أدى لقرار إنهاء العقد الذي يجمعه مع القناة اللإخبارية “إي ثيلي” والذى لقى استنكارا شديدا من بعض الجهات المحافظة باعتباره مسا بحرية الرأي والفكر التي يضمنها الدستور الفرنسي.
وما إن بدأ الجدل حول هذا الكتاب في الهدوء حتى بدأ الروائي الفرنسي الشهير “ميشال ويلبك” في الظهور على وسائل الإعلام للترويج لروايته السياسية “استسلام” التي تدور أحداثها في فرنسا عام 2022 والتي يفوز في انتخاباتها الرئاسية لأول مرة رجل مسلم مدعوم من اليسار وذلك لقطع الطريق أمام مرشحة الجبهة الوطنية (اليمين المتشدد). وتصور الرواية التحول النهائي للمجتمع الفرنسي نحو الإسلام والانهيار المأساوي للقيم الليبرالية التي عرفها البلد منذ قرون. وزاد صعود نجم حركة “وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب” (بيجيدا) في ألمانيا ونجاح مظاهراتها المناهضة للإسلام من تأجيج الجدال حول رواية ويلبك وانقسم المشهد الإعلامي بين مؤيد ومستنكر لما تتنبأ به هذه الرواية. وتشاء الأقدار أن تصدر في الأكشاك في نفس اليوم الذي شهد الهجوم الدموي على مجلة “شارلي إيبدو” التي اشتهرت بنشرها المتكرر للرسوم الساخرة من الإسلام تحت ذريعة حرية التعبير وانتقاد الأديان التي يكفلها الدستور الفرنسي.
وفي مجتمع فرنسي تحت الصدمة، تبدو الأفكار التي تروج لها مؤلفات “إيريك زمور” و ” ميشال ويلبك” وغيرهم من الكتاب والأدباء المؤثرين في الساحة الإعلامية الفرنسية أكثر جاذبية من أي وقت مضى وذلك رغم تحذير الكثير من السياسيين والإعلاميين من خطر الوقوع في الإسلاموفوبيا والخلط بين الإسلام كدين و”الإسلاماوية” كإيديولوجية سياسية التي تتبنى العنف للتعبير.
وتلتقي الآراء المناوئة للإسلام بالأفكار التي ينادي بها اليمين المتطرف المعادي للهجرة منذ زمن طويل. وصرحت “مارين لوبان” رئيسة حزب “الجبهة الوطنية” لجريدة “لوبوان” بأنها كانت الوحيدة التي حذرت من “التطرف الإسلامي” الذي يهدد المجتمع الفرنسي وجددت مطالبها للحزب الحاكم بضرورة تنصل فرنسا من “اتفاقية شنغن” التي تسمح بتنقل الأشخاص بكل حرية في دول الإتحاد الأوروبي وخلع الجنسية عن الإسلاميين الذين سافروا للقتال في سوريا والعراق والذين قد يرتكبوا أعمالا إرهابية عند عودتهم لفرنسا. وردا على حملة التضامن الدولي الواسعة مع فرنسا والتي حملت شعار “أنا شارلي” تضامنا مع الصحيفة الساخرة، صرح الأب الروحي لليمين المتشدد في فرنسا “جون ماري لوبان” بأنه ليس “شارلي” وإنما “شارل مارتيل” في إشارة للقائد العسكري الذي حكم إمبراطورية الفرنجة في أوائل القرن الثامن الميلادي. وتحت صدمة هجوم باريس الذي أشارت إليه بعض الصحف “بالحادي عشر سبتمبر الفرنسي”، استثمر اليمين المتشدد المعادي لسياسات الهجرة الحادثة للتأكيد على صحة فرضياته التي أهملها تياري اليسار واليمين الذين تناوبوا على سدة الحكم في فرنسا منذ عقود.
وشهدت الأيام التي تلت أحداث باريس هجمات انتقامية عديدة على مساجد ومحلات يملكها مهاجرون كإشارة لتفشي ظاهرة الخلط بين الإسلام والإرهاب وتنامي مشاعر العداء للمسلمين والمهاجرين رغم تحذيرات الرئيس الفرنسي الذي دعا إلى الوحدة الوطنية وحماية التنوع الثقافي والعرقي للمجتمع الفرنسي كرد أفضل على ظاهرة الإرهاب. كما تهافت قادة الجالية الإسلامية لإدانة الهجوم مطالبين المسلمين بالخروج للمظاهرات تنديدا بالهجوم الذي يتنافى مع مبادئ التسامح والتعايش التي يدعو إليها الإسلام. وصرح حسان شلغومي، رئيس “الجمعية الثقافية لمسلمي درانسي” المثير للجدل، بأن”رسول مرتكبي جريمة شارلي إيبدو هو الشيطان” وأنه يخشى تبعات هذه العملية على مسلمي فرنسا. كما أدان دليل بوبكر عميد مسجد باريس العملية الإرهابية قائلا بأنها تشكل طعنة لكل المسلمين الفرنسيين مطالبنا منهم الإنضمام إلى “المسيرات الجمهورية” المنددة بهذه العملية الإرهابية.
وبعد مرور أكثر من شهرين على الهجوم الإرهابي الذي شهدته باريس يبدوا أن الأمور هدأت قليلا لكن مشكلة اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي بقيت تراوح مكانها. كما أن رجوع بعض المقاتلين الذين انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية لبلادهم قد يطرح على الطاولة مشكلة التطرف والأخطار المحدقة بعد أن دعا أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة، أنصاره أينما وجدوا لضرب المصالح الغربية. التحدي الذي يواجه صانعي القرار الآن هو إيجاد حلول عاجلة للمشاكل الإجتماعية والإقتصادية التي تعاني منها شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، وبالخصوص سكان الضواحي، لتفويت الفرصة أمام الدعاية الإعلامية التي تستهدف الشباب اليائس على وسائل التواصل الإجتماعي والتي باتت حجر الأساس لعمليات التنجيد في صفوف الجماعات المتطرفة كالقاعدة وتنظيم الدولة. ومن الخطأ الإعتماد كليا على استراتيجية أمنية للقضاء على التطرف وعدم معالجة أسباب نجاعة “عمليات التجنيد الإيديولوجي” التي تعتمدها الجماعات المتطرفة والتي تعتمد في أغلبها على زرع بذور العنف والحاجة للانتقام من المجتمع في نفوس “المقصيين إجتماعيا” من الشباب ووعدهم بحياة أفضل هنا أو في العالم الآخر. وبعد شهرين من حادثة “شارلي إيبدو”، يبدو أن الأمور عادت إلى ما قبل “السابع من يناير”، في انتظار القضاء على تنظيم الدولة الذي تمدد للجهة الأخرى من المتوسط والذي لا يزال يراهن على “الذئاب المنفردة” لتنفيذ هجمات وإحداث الصدمة في المجتمعات الأوروبية التي تشارك دولها في الحلف الذي يقصفه في سوريا والعراق ..
الجزائر.نت