“الأمة العربية”، عبارة نسمعها كثيرا لما يتعلق الأمر بهذا الإنتماء الحضاري لأمة افتراضية مجروحة يقول أنصارها بأن الإستعمار الغربي هو الذي فتتها ثم خرج ليتركها أوطانا مقسمة وضعيفة يديرها أمراء وعساكر موالون للمستعمرين القدامى. البعض يلقي باللوم على الدولة العثمانية التي كرست لقرون طويلة إقصاء “العرب” من شرف قيادة دولة الخلافة الإسلامية. لذلك يرى المؤرخون أن الثورة العربية الكبرى (1916-1918) التي أعلنها الحسين بن علي الهاشمي، حاكم مكة آنذاك، ضد الدولة العثمانية بالتعاون مع الإنجليز والفرنسيين تؤسس للقومية العربية المعاصرة كتيار إيديولوجي يريد إيقاظ أمجاد العرب و”تحرير” بلادهم من النفوذ العثماني. وبالتوازي مع الإنتصارات التي حققها الحسين بن علي ضد العثمانيين ارسلت بريطانيا جيشها المرابط في مصر لاحتلال فلسطين بالتعاون مع العرب الذين سئموا على ما يبدو سياسة “التتريك” العثمانية. وفي هذا الوقت عقدت بريطانيا مع فرنسا اتفاقية سايكس-بيكو لتقاسم النفوذ في المنطقة ونصبوا الملوك الهاشميين العرب الموالين لهم (والمعادين للعثمانيين) في المنطقة قبل أن يقدموا ما سُمي وعد بلفور للحركة الصهيونية يقضي بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، آخر الأراضي التي تم انتزاعها من الإمبراطورية العثمانية المتهالكة وبمساعدة “القوميين العرب”.
وكما أوردنا، فالقومية العربية التي أطلق شرارتها الهاشميون من مكة ضد العثمانيين اشتد عودها بعد الحرب العالمية الثانية ولكن هذه المرة ضد الإمبريالية الغربية بعدما أدرك العرب خطأ تحالفهم مع مستعمريهم للإطاحة بالعثمانيين. وانبثق من الحركات التحررية زعماء عرب قوميين من أمثال عبد الناصر في مصر وبومدين في الجزائر وصدام في العراق والأسد في سوريا، الخ. وكما رضي الهاشميون في أوائل القرن العشرين ببضع كراسي ملكية تحت هيمنة الإمبرياليين الغربيين، استغل القوميون الجمهوريون سعي الشعوب للتخلص من النفوذ الغربي للسطو على السلطة وتهميش وقمع معارضيهم في الداخل. ثم واصلوا سعيهم لتحرير هذه “الأمة العربية” بإقامة تحالفات مع المعسكر الشرقي (الأجنبي) لمواجهة الإمبريالية الغربية كما تحالف القوميون الأوائل مع فرنسا وبريطانيا (أجانب أيضا) لوضع حد للنفوذ العثماني.
وبعد عقود من المشاريع الفاشلة و الحروب الخاسرة والنزاعات بين العرب أنفسهم وتحالف بعضهم مع نفس الإمبرياليين للإطاحة بآخر الأنظمة القومية العربية في العراق وليبيا سوريا خرجت موضة التيار “العروبي الإسلامي” للضحك مرة على ذقون العرب من مماليك الخليج الذين كما فعل الهاشميون قبل قرن من الزمان، في أول “خلافة عربية ” لهم من مكة، قبل أن يطردهم الوهابيون-السعوديون في عشرينات القرن الماضي لإنشاء الدولة السعودية الثالثة القائمة إلى اليوم على تحالف رجال الدين الوهابيين وآل سعود العروبيين والقوى الغربية والتي تسعى لزعامة ما سموه “الأمة العربية السنية”. والقاسم المشترك بين كل زعماء التيار العروبي القومي منذ قرن من الزمان هو سعيهم للتحالف مع القوى الخارجية لتدعيم حكمهم وتوريثه وقمعهم لمعارضيهم وهذا كله باسم “الأمة العربية” الموعودة وربما ذلك سبب فشلهم. إذا بدلا من توجيه الشعوب نحو التحرر داخليا والإنعتاق من الهيمنة الغربية والشرقية على حد سواء، سقط القوميون العرب في فخ “حب السلطة” وقمع بني جلدتهم بالتعاون مع أعداء “الأمة العربية” الموعودة. وها نحن نرى اليوم نتيجة التيارات القومية التي تتغذى على الوعود بتكوين “كيان خيالي” يجمع الشعوب العربية قبل أن تستيقظ على الواقع المر الذي نعيشه اليوم.
على الرغم من ذلك لازلنا نسمع أصوات تتكلم باسم الأمة العربية وتأمل في تحقيق مشروع حضاري عابر للحدود تتقاسم فيه الشعوب اللغة و العادات والمصير المشترك تارة باسم القومية العربية وأحيانا تحت مظلة الدين. الواقع أثبت ان هذا الكيان المسمى الأمة العربية لا وجود له في الواقع : كيف نتحدث عن الأمة العربية ونحن نرى ان الدول التي تنتمي لها تتبادل العداء وتتحالف مع القوى الخارجية ضد بعضها البعض؟ كيف نتحدث عن أمة عربية من المغرب للمشرق والأسلاك الشائكة تفصل بين المغرب والجزائر ومصر وغزة والسعودية والعراق واليمن؟ ما هذه الأمة العربية التي تتحارب دولها فيما بينها وتدعوا القوى الغربية للتدخل فيها؟ من دفع الناتو للتدخل العراق ثم في ليبيا؟ من دفع الناس في سوريا لحمل السلاح ضد بعضهم البعض؟ من أفتى للقاعدة وداعش للإطاحة بالأنظمة “الكافرة” ؟ أين هذه الأمة عندما تدخلت السعودية بطائراتها في اليمن وقتلت وجرحت الآلاف؟ ما مصير هذه الأمة التي ترفض الديمقراطية وتدعم الانقلاب في مصر لإقامة نظام عسكري قمعي يتشدق بالعروبة؟ أين هذه الأمة العربية من المآسي الفلسطينية والسورية والعراقية والليبية؟ لماذا لا تساعد هذه الأمة في إيجاد حلول بالحوار وتستقبل القليل من اللاجئين المشردين بدلا من تركهم يموتون غرقا في قوارب الموت المتجهة لأوروبا؟ هذه ليست أمة متماسكة بالمعنى المتعارف عليه بل مجرد أنظمة غير شرعية متناحرة تابعة للقوى الخارجية تتشدق بالعروبة وأحيانا بالدين للضحك على شعوبها وابتزازها بحلم الوحدة القديم والذي كان ولا يزال أداة للديكتاتوريين العرب لإلهاء شعوبهم وحكمهم بالحديد والنار.
لتحقيق حلم “الأمة العربية” ينبغي برأينا الشروع أولا في إقامة دول عربية ديمقراطية “قابلة للحياة” تقبل بالتعدد العرقي و اللغوي والديني والثقافي قبل التفكير في تكوين كيان موحد عابر للقارات. الديكتاتورية غير قادرة على تحقيق الوحدة في البلد الواحد فكيف لها أن تؤسس لمشروع أمة؟ دعونا ننظر على مشروع “إتحاد المغرب العربي” ، ما الذي تم إنجازه لصالح الشعوب المغاربية منذ تأسيسه؟ لا شيء. وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي الذي لا يعدوا سوى آلية لحماية عروش مشيخات النفط. هذه الكيانات الورقية غير مجدية لأنها مجرد تجمع لديكتاتوريات تابعة للقوى الخارجية ولا تملك قراراتها. لماذا لا ننظر إلى تجربة الإتحاد الأوروبي الذي على الرغم من الفوارق اللغوية والثقافية تمكن من تكوين هوية أوروبية تؤمن بالمصير المشترك. قيام هذا الكيان جاء بعد حروب مريرة كنتيجة حتمية لتيارات القومية والفاشية التي وصلت للحكم في القرن الماضي. لكن الأوروبيين أدركوا بعدها أن بناء كيان أوروبي عابر للحدود يشعر فيه المواطن بالانتماء لأوروبا الجديدة لا يمكن أن ينجح بدون ديمقراطية وما تعنيه من سلام ورقي و حرية الرأي والتنقل والإستثمار والعدالة النزيهة، الخ. ولهذا فإن انضمام أي بلد إلى الإتحاد الأوروبي مرهون باحترام هذه المبادئ الأساسية التي غابت للأسف عن كل القوميين العرب.
وخلاصة القول أن مشروع الأمة العربية الذي رفعه الزعماء منذ ما يقرب قرنا من الزمان لا يعدوا أن يكون مجرد إيديولوجية سياسية للكذب على الشعوب وللسطو على للسلطة واحتكارها وقد أثبت التاريخ ما نقوله إذ فشل جميع القوميون العرب في تحقيق حلم الأمة العربية بعدما قمعوا شعوبهم وتآمروا على بعضهم البعض وتحاربوا فيما بينهم وتحالفوا مع أعداء هذه الأمة. وإن كان التيار القومي العربي الفاشل في أساسه علماني لا يعترف بالفوارق الدينية، فإننا نرى اليوم بزوغ نجم مشروع قومي عربي جديد يسخر الدين لزعامة كيان جديد يدعى “الأمة العربية الإسلامية” يتنازع حوله الإسلاميون المتطرفون بمختلف مشاربهم ويعدون أنصارهم بخلافة عربية-إسلامية لا تعترف بالأقليات (داعش كمثال حي). وبدون شك سيكون هذا المشروع أسوء من سابقيه إذ بالإضافة إلى تهديده للتنوع المذهبي والعرقي فإنه يحرم دينيا الديمقراطية ويلغي حق الشعوب في اختيار زعمائها. وكسائر الإيديولوجيات الفاشية غير الديمقراطية، فإن مآل مشاريعها هو المزيد من التشرذم والضياع للعرب. وإذا أثبتت الديمقراطية أنها حجر الأساس لتحقيق الوحدة الوطنية والرقي والعدل في البلد الواحد، فلماذا يصر القوميون العروبيون والإسلاميون على الديكتاتورية لإقامة كيان عابر للأوطان؟
الجزائر نت
تعليقان (2) على “’’الأمة العربية‘‘، هذا الكيان الخرافي”