الجزائر المستقلة : نصف قرن من الصراع على السلطة (ج1)

independance-dz
مشهد عن احتفالات الجزائريين بالإستقلال عام 1962

منذ اندلاع أحداث مدينة غرداية الأخيرة التي راح ضحيتها عشرات المواطنين – والتي تم تسويقها للرأي العام المحلي والدولي كأحداث عنف ذات دوافع طائفية وعرقية – أصبح الحديث عن المصير المجهول الذي ينتظر البلاد أكثر واقعية من أي وقت مضى. الصراع في غرداية والذي يجسد ميدانيا قبول البعض “بإقتتال الجزائريين” لأجل مصالح ضيقة يبين مدى هشاشة الحس الوطني والتأخر الرهيب الذي تعيشه البلاد في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية بعد أكثر من نصف قرن من الإستقلال. كما يبين فشل وارثوا ثورة نوفمبر المجيدة في تحرير الشعب بعدما نجحوا في تحرير البلاد وفشلهم في إعداد جيل قادر على تجسيد الإستقلال الوطني الحقيقي وإرساء دولة القانون والحريات. لا نعتقد أن ثوار 1954 كانوا يريدون طرد المحتل لإقامة جزائر كجزائرنا اليوم، جزائر يتقاتل فيها الجزائريون على السلطة والثروة والمذهب والعرق والقبيلة. ثورة نوفمبر كانت في الأساس لاسترجاع شرف الجزائريين وهويتهم وحريتهم التى داس عليها الإحتلال الفرنسي منذ عام 1830 وهذا ما فشلت في تحقيقه الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال. 

دعونا نعترف أننا لحد اليوم لم ننجح في استرجاع شرفنا رغم رحيل قوات الإحتلال منذ عشرات السنين. لماذا ؟ بسب الصراع غير النزيه على السلطة وانفراد البعض بها لأجل مصالحهم الضيقة. فما وصلنا إليه اليوم ليس وليد عهد بوتفليقة فحسب، بل نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية تمتد لأكثر من نصف قرن من عمر الدولة الجزائر المستقلة. دعونا نعود للجزائر عشية استقلالها حتى نفهم أسباب الفشل الذي نعيشه اليوم الذي أرسى اليوم عوامل الكراهية والصراع بين الجزائريين بمختلف أطيافهم بعدما كانوا البارحة يدا واحدة ضد المحتل الأجنبي.

Ben_bella_and_Boumediene
الزعيمان هواري بومدين (يمين) وأحمد بن بلة (يسار)

ففي عام 1962 الذي نالت فيه الجزائر استقلالها – بعد ثورة مسلحة دامت ثماني سنوات و 132 من الإحتلال الفرنسي- طُرح مشكل “شرعية” السلطة المنبثقة عن فصائل جبهة التحرير الوطني المختلفة. لا أحد نفي أن هناك خلافات في صفوفها وهو يمتد إلى سنوات الثورة التي شهدت انقسامات في صفوف الثوار تم لحسن الحظ تجاوزها لإنجاح الثورة التحريرية وصد العدو الأجنبي المشترك. فقد رفض الكولونيل هواري بومدين، زعيم هيئة الأٍركان العامة لجيش التحرير الوطني، وآخرون اتفاقيات إيفيان بسبب ما اعتبروه تنازلات غير مقبولة من الحكومة الجزائرية المؤقتة لصالح الجانب الفرنسي.

ومنذ ذلك الحين شرع بومدين في التخطيط للإستيلاء على جبهة التحرير الوطني (والسلطة) بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ولتحقيق ذلك بعث الشاب المقرب منه عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا لإقناع محمد بوضياف الذي كان يقبع في السجن بالإنضمام لجماعة بومدين لكن دون جدوى. للإشارة فإن بوضياف تم القبض عليه من طرف قوات الإحتلال عام 1956 مع أعضاء من “المجلس الوطني للثورة الجزائرية” المنبثق عن مؤتمر الصومام – منهم محمد خيضر وحسين آيت أحمد وأحمد بن بلة – بعدما تم تحويل الطائرة المغربية التي كانوا يستقلونها في طريقهم للقاهرة إلى تونس. وقد تم إطلاق سراح زعماء جبهة التحرير المسجونين في فرنسا بعد عقد اتفاقيات وفق إطلاق النار في 19 مارس 1962. وبعد رفض بوضياف وحسين آيت أحمد الإنضمام لمعسكر “جماعة وجدة” توجه بوتفليقة لأحمد بن بلة وقد لقى ترحيبا من هذا الأخير أنتهى بقبوله التحالف مع بومدين.

وقد عكس مؤتمر طرابلس في ماي 1962 الإنقسامات العميقة في صفوف الزعماء الجزائريين الفاعلين حول مستقبل البلاد. وقد تم الاتفاق على تبني الإشتراكية كإيديولوجية رسمية للدولة الجزائرية الفتية وجعل جبهة التحرير الوطني التي قادت الكفاح المسلح كواجهة سياسية لنظام الحزب الواحد. ووصل الصراع حول الزعامة إلى أشده عندما رفض أعضاء الحكومة الجزائرية المؤقتة ترشيح أحمد بن بلة للرئاسة ودخولهم التاريخي إلى الجزائر العاصمة في الرابع من شهر جويلية/يوليو 1962 باعتبار أن الحكومة المؤقتة هي الممثل الشرعي للشعب الجزائري وهي التي تفاوضت مع الجانب الفرنسي وحصلت على اعتراف المجتمع الدولي. وبعد عودته للجزائر حصل بن بلة على دعم المناضل فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة وشرع في إقصاء الأعضاء المناوئين له (محمد بوضياف وحسين آيت أحمد على الخصوص)  وقد عمل المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني في تلمسان على “شيطنة” الإدارة السياسية للحكومة المؤقتة ورفض “شرعيتهم الثورية”. وهذه أولى حلقات الصراع على السلطة في غمرة الإحتفالات بالإستقلال. وهكذا توالت المواجهات الدامية في الجزائر العاصمة بين مختلف فصائل “الولايات التاريخية” التي خاضت القتال ضد الجيش الفرنسي والتي أضحت متنافسة فيما بينها لأجل السلطة. وفي بداية شهر أوت/أغسطس 1962 دخل بن بلة وأنصاره بالقوة للجزائر العاصمة مدعومين بقوات العقيد بومدين وقد خلفت تلك المواجهات مئات القتلى من المواطنين الجزائريين. وكما يقول الحقوقي الجزائري علي يحي عبد النور، “فالثورة لا يملكهما من أشعلوها بل أولئك الذين أنهوها وسيطروا عليها باعتبارها غنيمة”.

هواري بومدين
الرئيس السابق هواري بومدين

وبعدما تم التحكم شيئا فشيئا في الفوضى التى سادت الجزائر العاصمة غداة إعلان الاستقلال تم تعيين فرحات عباس على رأس المجلس الوطني الجزائري وإعلان قيام “الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية” و انتخاب أحمد بن بلة كأول رئيس للبلاد. وحال تسلمه منصبه بدأ الرئيس في تطبيق الإيديولوجية الإشتراكية التي نادى بها بومدين وجعل اقتصاد البلاد تحت هيمنة الدولة. لكن أسلوبه الأتوقراطي في الحكم دفع بالكثير من الشخصيات الوطنية إلى التخلي عنه والتحول لمعارضين نذكر منهم محمد بوضياف ومحمد خيضر وفرحات عباس. ورد  الرئيس بن بلة ووزير دفاعه بومدين  بمنع الجمعيات والأحزاب وقمع كل أشكال المعارضة السياسية. وبناءا على ذلك تم إلقاء القبض على حسين آيت أحمد و الحكم عليه بالإعدام بسبب انتقاداته اللاذعة لنظام بن بلة الذي لا يعترف بالتعددية السياسية. لكن الرئيس الأوتوقراطي بدأ يفقد شيئا فشيئا ثقة الجيش فيه بقيادة هواري بومدين. وقد أكتشف بومدين بأن بن بلة ينوي تنحية حليفه القوي عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يشغل منصب وزير في الحكومة وبأنه ربما سيحين دوره بعد ذلك. عندئد قام بومدين بإيحاء من بوتفليقة بتدبير انقلاب عسكري استباقي، أو كما يسميه أنصاره “التصحيح الثوري”، ضد نظام بن بلة في 19 جوان/يونيو 1965 مكنه من الاستيلاء على السلطة وبذلك تمكن الحليفان القديمان بومدين (الرئيس) وبوتفليقة (وزير الخارجية) من البقاء في دواليب الحكم حتى عام 1978. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

وحرص نظام بومدين الثوري على إعادة الجيش الوطني الشعبي – سليل جيش التحرير الوطني – إلى الواجهة وتحويله لجهاز للتسيير باعتباره السلطة الحقيقية في البلاد. ويشير المراقبون أن نظام بومدين كان أكثر أتوقراطية وديكتاتورية من نظام بن بلة الذي سبقه إذ اعتمد بشكل كبير على الشرطة السياسية لملاحقة المعارضين الذين قادوا الثورة التحريرية وقمعهم وإقصائهم من الحياة السياسية. وقد دفع محمد خيضر ثمن ذلك إذ اغتيل في مدينة مدريد الإسبانية عام 1965. واتسم عهد بومدين الإشتراكي بقرارات جريئة لتطوير الإقتصاد الوطني عن طريق ما سمي “بالثورة الزراعية” في القطاع الفلاحي وإقامة الصناعات الثقيلة المكلفة وسياسات أخرى ذات بعد ثقافي تسعى لإعادة الإعتبار للغة العربية في المدرسة والإدارة عن طريق “سياسة التعريب” بالموازاة مع تهميش المكون الآخر للهوية الجزائرية : اللغة والثقافة الأمازيغيتين. ولاشك أن نظام بومدين حصد الكثير من المؤيدين في الأوساط الشعبية بسبب إنجازاته الاقتصادية في الداخل ونجاحاته السياسية في الخارج في إطار حركة عدم الإنحياز ودعمه اللامشروط للحركات التحررية في العالم.

1-Chadli+Bendjedid
الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد

لكن وفاة الرئيس المفاجئة في 1978 وضعت البلاد في أزمة إذ أن نظام بومدين الأوتوقراطي لم يترك أي آلية واضحة لانتقال الحكم. وإن لم يكن متوقعا أن يقع الاختيار على شخص غير معروف كالشاذلي بن جديد لتسلم منصب رئيس الجمهورية، فأن مؤتمر جبهة التحرير أختار بوضوح عقيد جديد لخلافة العقيد الراحل معززا دور العسكر في الحياة السياسية. وقد اعترفت شخصيات وطنية عايشت الحدث أن قاصدي مرباح، وزير المخابرات في عهد بومدين، هو الذي أختار من سيخلف الرئيس الراحل. واستهل الرئيس الشاذلي الحكم بإجراءات ملموسة لطي صفحة بومدين بإطلاق سراح السجناء السياسيين منهم فرحات عباس وأحمد بن بلة وإبعاد حليف بومدين القديم : عبد العزيز بوتفليقة. بعد ذلك توجه الشاذلي نحو تحرير الاقتصاد مما أثار شهية أطراف في السلطة تسعى للاستحواذ بالدينار الرمزي على المنشآت الصناعية التي خلفها نظام بومدين مستفيدة من الفساد الذي عم كل مفاصل الدولة. وأدى ذلك لبروز طبقة أوليغارشية شديدة الثراء في الوقت الذي يعاني فيه عامة الشعب من تدهور المستوى المعيشي جراء انهيار أسعار النفط وعجز الدولة عن توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين.

من جهة أخرى شهدت سنوات الثمانينات بروز طبقة اجتماعية متعلمة وجماعات ذات خلفيات إيديولوجية مختلفة تنادي بإنهاء حكم الحزب الواحد والتوجه نحو التغيير الديمقراطي في البلاد. لكن النظام الحاكم رد بعنف ضد المعارضين بدءا بقمع حركة “الربيع الأمازيغي” (1980) المطالبة بإعتراف الدولة بالثقافة واللغة الأمازيغيتين ثم اعتقال المعارضين الآخرين للنظام بمختلف توجهاتهم الإيديولوجية. ولقطع الطريق أمام الناشطين اليساريين في أوساط الشباب الذين نشأوا في عهد بومدين تمت المصادقة على “قانون الأسرة” (1984) المثير للجدل والذي يعتبره المراقبون خطوة مهمة لدعم تيار المحافظين الإسلاميين. وتم بعد ذلك السماح للإسلاميين بالتغلغل في المجتمع عن طريق المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية في الوقت الذي يتعرض فيه اقتصاد البلاد لأزمة عميقة بسبب تراجع أسعار النفط في أواخر الثمانينات. وفي هذه الظروف اندلعت المظاهرات الشبابية في أكتوبر/تشرين الأول 1988 وعمت مختلف أنحاء البلاد منذرة باندلاع “الربيع الجزائري” قبل عقود مما سمي “بالربيع العربي”. واغتنم الإسلاميون الفرصة وانضموا للمظاهرات التي خلفت المئات من الضحايا. وهذه حلقة أخرى من حلقات الصراع على السلطة في جزائر الإستقلال.

نتناول في الجزء الثاني مسلسل الصراع على السلطة في الجزائر منذ سنوات التسعينات إلى عهد عبد العزيز بوتفليقة.

الجزائر نت

تعليقان (2) على “الجزائر المستقلة : نصف قرن من الصراع على السلطة (ج1)”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *