منذ أن كشفت صحف أمريكية في أوائل الشهر الجاري النقاب عن لقاء سعودي إسرائيلي ضمن ندوة مغلقة لمجلس العلاقات الخارجية في واشنطن شارك فيها أنور عشقي ضابط الاستخبارات السعودي السابق ودوري غولد أحد كبار مساعدي رئيس الحكومة الإسرائيلية بن يامين نتنياهو، حتى عاد الحديث عن التقارب غير المعلن بين أهم حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط : “الدولة الصهيونية” و “المملكة الوهابية”.
والهدف المعلن من ذلك هو الوقوف في وجه النفوذ الإيراني الذي يشكل تهديد لإسرائيل، شرطي الشرق الأوسط الذي لا يقبل بأي دولة قوية منافسة في المنطقة تهدد مصالحه ومصالح حلفائه الغربيين. أما المملكة السعودية فهي مستعدة للتحالف مع الشيطان ليس دفاعا عن مصالح شعب الجزيرة العربية أو دينه كما يشاع -ولو كان الأمر كذلك لتفهمنا الموقف- ولكن للحفاظ على عرش آل سعود الذين يعملون جاهدين لضمان استمرارهم في الحكم بالتعاون أولا مع مشايخ الوهابية الذين يشرعنون سلطانهم ويلبسوه ثوبا إسلاميا شرعيا لا يجوز التفكير في إصلاحه أو تغييره، ثم مع الحلفاء الغربيين بناء على مبدأ “النفط مقابل الحماية” الذي أقرته معاهدة كوينسي (1945) بين مؤسس المملكة عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وأخيرا التقارب الغريب الذي خرج للعيان مع إسرائيل كحليف يمكن التعويل عليه ضد الجارة إيران.
والحقيقة أن النظام السعودي الذي يعتمد على إذكاء الحروب ضد جيرانه العرب والفرس على حد سواء، حتى يضمن بقائه بالتنسيق مع القوى الغربية، يجري اتصالات سرية مع إسرائيل منذ زمن ليس بالقصير. فقد تواصل النظام السعودي مع إسرائيل بالتعاون مع البريطانيين إبان ثورة 26 سبتمبر اليمنية (1962-1970) التي قامت ضد المملكة المتوكلية وسخر ثرواته النفطية لتسليح خصومه الجمهوريين المدعومين من بعض القوميين العرب. وهكذا استنزفت مملكة آل سعود الجيش المصري تحت قيادة جمال عبد الناصر الذي زج ب70 ألف جندي لدعم الجمهوريين اليمنيين مما انعكس على أدائه في حرب 1967 ضد إسرائيل.
وفي ثمانينات القرن الماضي أجرى النظام السعودي اتصالات سرية مع المسؤولين الإسرائيليين عن طريق سفير المملكة في الولايات المتحدة سيء الصيت بندر بن سلطان المقرب من المحافظين الجمهوريين وذلك لإجراء محادثات من أجل السلم في الشرق الأوسط. وبعد الثورة الإسلامية الإيرانية (1979) التي أطاحت بنظام الشاه الموالي لإسرائيل والولايات المتحدة، انخرطت السعودية كعادتها وبعض دول الخليج في الحرب غير المباشرة ضد العدو الجديد (إيران) ودعمت النظام العراقي (البعثي !) إبان الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى (1980-1988). وانقلبت السعودية على صدام حسين، الحليف الذي حارب 8 سنوات ضد إيران عدو آل سعود، عندما غزا الكويت واقترب من حدودها. عندئد نادى آل سعود ومشايخهم بضرورة استقبال المارينز الأمريكي على الأراضي المقدسة لتحرير الكويت وتدمير الجيش العراقي كما شاركوا بعدها في الحصار الإقتصادي والذي انتهى بالغزو الأمريكي للعراق سنة 2003. وقبل ذلك بعام واحد في غمرة تداعيات أحداث 11 سبتمبر، أطلق الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز ما يسمى بمبادرة السلام العربية (2002) التي تعرض تطبيع عربي شامل للعلاقات مع الكيان الإسرائيلي مقابل انسحاب إسرائيل لحدود 1967 المعترف بها دوليا والسماح بقيام دولة فلسطينية. وقوبلت هذه المبادرة بتجاهل كلي من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى يومنا هذا.
لكن الإتصالات بين إسرائيل والمملكة السعودية لم تتوقف بل شهدت نقلة نوعية منذ اندلاع ما يسمى “الربيع العربي” وعزوف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الإنخراط في حرب مباشرة ضد النظام السوري وسعيه لعقد اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي المثير للجدل. وتتقاسم إسرائيل والمملكة السعودية نفس المخاوف من توصل القوى الغربية الكبرى وإيران لاتفاق قد ينهي عقود من العزلة و العقوبات الإقتصادية التي أنهكت الإقتصاد الإيراني. إسرائيل باعتبارها القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط تخشى أن تتمكن الجمهورية الإسلامية من تطوير قدراتها العسكرية غير التقليدية مما سيحدث توازنا في الرعب ويطلق يد إيران في دعم الحركات المعادية لإسرائيل كحزب الله في جنوب لبنان وحماس في قطاع غزة. أما المملكة السعودية فهي في صراع إيديولوجي مع إيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية وتخشى أن تصدر إيران ثورتها لبلدان الخليج عن طريق استغلال الأقليات الشيعية الموجودة فيها مما يشكل خطرا على نظام الحكم الملكي المطلق في السعودية المتحالف مع التيار الوهابي المتطرف. كما تخشى المملكة السعودية في إطار صراعها على زعامة العالم الإسلامي (الملك يسمى خادم الحرمين !) أن يؤدي الإتفاق حول البرنامج النووي إلى رفع العقوبات الإقتصادية على إيران وإطلاق يدها في دعم الأقليات الشيعية في المنطقة.
وكنتيجة ليأس النظام السعودي من إمكانية زج الولايات المتحدة لجيشها في حرب جديدة في الشرق الأوسط ضد إيران بالرغم من الصفقات الطائلة لصالح شركات السلاح الأمريكية والدعم المالي لمراكز البحوث السياسية لشراء دعم الهيئات المؤثرة في قرارات واشنطن، فإن أسرة آل سعود اختارت أن تتقرب من اللوبي القوي الموالي لإسرائيل في أمريكا في محاولة لشراء دعمه ضد “الخطر الإيراني المشترك” الذي يهدد السعودية وإسرائيل معا. وأشارت مصادر استخباراتية إلى أن السعودية وفي إطار سعيها لكسب ود اللوبي الإسرائيلي في واشنطن تكون قد أنفقت في الأعوام الأخيرة ما قيمته 16 مليار دولار لدعم البنية التحتية في إسرائيل وقد استخدم جزء منها في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولاريب أن ترى اليوم الإعلام الدعائي السعودي يسوق بقوة للرأي القائل بأن إيران هي الخطر الداهم على المنطقة (المشروع الصفوي) والذي لقي مساندة من المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية التي تحذر من “حملة تشييع” مفترضة للسنة ستقضي على الإسلام الصحيح! إذ أن أغلب الوهابيين يصرحون بأن الشيعة هم في النهاية مشركون وهذا ما يتم تنفيذه على الأرض بالتصفية المذهبية التي تقرها جماعات السلفية الجهادية كالقاعدة و تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق وحتى في السعودية التي شهدت تفجيرات ضد مساجد شيعية. وكنتيجة حتمية للدعاية السياسية والدينية القوية ضد إيران والتي جعلت من إسرائيل حليفا مقبولا، فإن صورة الدولة العبرية تحسنت بشكل لافت في المجتمع السعودي المحافظ مقابل تنامي العداء لإيران والشيعة بشكل لافت. وأشارت عملية سبر للآراء أجراها مؤخرا معهد إسرائيلي بالتعاون مع إحدى الجامعات الأمريكية أن 53% من السعوديون يعتبرون إيران عدوهم الأول، و 22% يرون أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشكل خطرا على بلادهم. أما إسرائيل فتأتي في المرتبة الأخيرة إذ أن 18% فقط من المستجوبين يعتقدون بأن إسرائيل تشكل خصما للمملكة السعودية.
واللقاء الأخير للجنرال السعودي أنور مع دوري غولد، أحد مساعدي بن يامين نتنياهو، ما هو إلا تحضير للرأي العام لتعاون مستقبلي علني بين المملكة السعودية وإسرائيل في الشرق الأوسط لردع طهران وكل بلد عربي قد يهدد سياسات محور تل أبيب-الرياض-واشنطن. والسعودية كانت دائما ضد الدول التي تهدد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة : فقد وقفت ضد القوميين العرب بدءا بجمال عبد الناصر إلى صدام حسين، كما وقفت ضد الإسلاميين المعتدلين (الإخوان المسلمين) لما وصلوا للحكم في مصر مؤخرا واعتبرتهم خطرا عليها ودعمت الإنقلاب العسكري ضدهم، إذ انها تخشى فقدان زعامتها للعالم السني وترى وصول إسلاميين للحكم عن طريق الاقتراع تهديدا صريحا لنظام المملكة القائم على الملكية المطلقة بتزكية مشايخ الوهابية. واليوم تسوق السعودية للخطر الشيعي الإيراني الفارسي عن طريق الدعاية الدينية والسياسية وذلك يتقاطع بالطبع مع المشروع الإسرائيلي، فالمملكة ترى القوميين العرب العلمانيين والإسلاميين غيرالتابعين لها والشيعة والفرس كلهم أعداء لها ولإسرائيل.
وقد يسألنا أحدهم قائلا لماذا لا يحق للسعودية أن تتحالف مع إسرائيل إذا كانت دول عربية أخرى كمصر والأردن وغيرها تقيم علاقات سرية أو رسمية معها؟ والجواب هو أن هذه الدول تقيم علاقاتها مع إسرائيل في إطار ثنائي براغماتي (بغض النظر عن إيجابياتها وسلبياتها) ولا تهدف إلى حروب استباقية ضد دول أخرى في المنطقة، أما التقارب السعودي الإسرائيلي فسيكلف شعوب المنطقة حروبا مذهبية وعرقية لأجيال قادمة نظرا لتحكم المملكة في التيار السلفي-الوهابي الذي ينشر الكراهية والتكفير ضد خصوم أسرة آل سعود (تسييس للدين). فالبارحة كان القوميون العرب “شيوعيون ملحدون” بالنسبة للمملكة والإسلاميون المعتدلون “مبتدعة تافهون”. أما اليوم فجاء دور الشيعة إذ يصب علماء آل سعود الوهابيون جام غضبهم على “الروافض” والفرس رغم التكلفة الباهظة للطائفية -وقد بدأت السعودية نفسها في دفع ثمنها (تفجير “داعش” لمساجد الشيعة في المملكة)- لتبرير انخراطهم في حروب سوريا واليمن والعراق. وكل الدعاية الإعلامية والدينية التي نشهدها اليوم ضد الخطر الإيراني الداهم ما هي إلا وسيلة لتحضير الرأي العام المحلي والإسلامي لقبول التحالف بين دولة إسرائيل الصهيونية (الديمقراطية) -التي تسعى للحفاظ على مصالح أجيال الشعب الإسرائيلي الصاعدة- والمملكة السعودية الوهابية (الإستبدادية) التي لا هدف لها سوى الحفاظ على مزايا أحفاد عائلة آل سعود ومشايخ الوهابية المتحالفين معهم وتعزيز سطوتهم على خيرات البقاع المقدسة.
الجزائر نت